البيولوجيا والتطوّر > منوعات بيولوجية
التخمُّر الخلوي... أجبانٌ وخمورٌ و... سرطان!
تحتاجُ الكائناتُ الحية بدءاً من وحيداتِ الخليةِ وحتى أكثرِها تعقيداً إلى الطاقةِ لكي تنمو وتقومَ بوظائفها الحيوية، أما كيف تحصل على هذه الطاقة فلكلٍّ منها استراتيجيةٌ تناسبُه؛ ففي حين تعتمدُ بعضُ الكائناتِ على التنفس في تحويل المركبات العضوية إلى موادٍ أبسطَ وإطلاقِ غاز ثاني أكسيد الكربون، يعتمدُ البعضُ الآخرُ على التخمُّر وهو عمليةٌ خلويةٌ تحدث دون وجود الأوكسجين ويتمُّ فيها تحويلُ المواد العضوية إلى كحول أو أحماض إضافةً إلى إطلاق غاز ثاني أكسيد الكربون، وتتمُّ كلتا العمليتين في سيتوبلاسما الخلايا الحية ضمن محطات توليد الطاقة التي تعُرف بالميتوكوندريا.
هل تستخدمُ الخلايا السليمة والسرطانية التنفس أم التخمُّر للحصول على الطاقة؟
أجاب عن هذا التساؤل الطبيب والفيزيولوجي والبيوكيميائي الألماني Otto Heinrich
الذي وجد أنَّ معظمَ الخلايا السليمة تحصلُ على الطاقة اللازمة لحياتها من خلال عملية التنفّس الهوائي، في حين أنَّ الخلايا السرطانية تميُل إلى إنتاج الطاقة من خلال عمليات التخمُّر، وممَّا يُثير الدهشةَ أنّ الخلايا السرطانيةَ تفضّلُ اتّباعَ هذه الاستراتيجية حتى في حال توفّر كميات كافية من الأوكسجين!
لقد فاجأت هذه الحقيقة العلماءَ، وربما أذهلتنا نحن أيضاً فلمَ تلجأ الخلايا السرطانية لفعل ذلك؟
في الحقيقة؛ لا يَكمنُ الفارق الوحيد بين عمليتي التخمُّر والتنُّفس بوجود أو غياب الأوكسجين فحسب، فالسِّمة الأهم تتمثّلُ في مردودِ الطاقة الناتجة عن كلِّ منهما، فالاستقلابُ الذي يعتمدُ على التنفس هو استراتيجيةُ أكثر جدوى من التخمُّر من حيث مردودِ الطاقة، إلّا أنّ تكاليفَ إنتاجِ الطاقةِ اعتماداً على التنفس هي ضعفا تكاليف إنتاجها في التخمُّر. والاستقلاب (الأيض) هو عمليةٌ حيويةٌ تتضمَّن مجموعة من التفاعلات الكيميائية التي تهدف إلى تحويل الجزيئات إلى من شكلٍ إلى آخرَ ليُصارَ إلى استخدامها في النمو الخلوي والتكاثر.. الخ
تُسمَّى هذه الطريقة التي تعتمدُها الخلايا للحصول على الطاقة (أي القيام بالتخمُّر رَغم وجود الأوكسجين) بـ الاستقلاب الفائض أو Overflow metabolism، وتُعرَفُ في مجال السرطان باسم "تأثير واربورغ"، وتُلاحَظ بشكلٍ واسعٍ في الخلايا سريعةِ النمو، مثل البكتريا والفطريات وخلايا الثدييات.
إذاً فالعاملُ النهائي في تشكّل السرطان متعلِّقٌ بحدوث تبدّل في طرق إنتاج الطاقة، وقد أكَّدَ ذلك عالم البيولوجيا Thomas Seyfried وفريقُه في بحثهم المنشور عام 2014، حيث وجدوا أنَّ السرطان يتشكّل نتيجةً لخللٍ في الاستقلاب يرتبط بخللٍ وظيفيٍّ في الميتوكوندريا أو عددها أو بنيتها، وإنّ من شأن هذه العيوب أن تؤدّي إلى زيادة التخمُّر وبالتالي زيادة استهلاك الغلوكوز في الخلايا السرطانية، إذ من المعروفِ أنَّ الخلايا السرطانية تستهلكُ 18 إلى 19 ضعف ما تستهلكًه الخلايا الطبيعية من الغلوكوز.
وقد دلَّلوا على ذلك بإثبات أنَّ استبدال ميتوكوندريا الخلية السرطانية بميتوكوندريا سليمة يؤدي إلى كبح إمكانية تسرطن الخلية، وعلى العكس فإنّ استبدال الميتوكوندريا في الخلايا السليمة بميتوكوندريا من الخلايا السرطانية يزيد من احتمالِ تحوّل هذه الخلايا السليمة إلى سرطانية.
وعلاوةً على ذلك فإنَّ العديد من المورثاتِ الطَّافرة والمرتبطة بالسّرطان تعملُ على إعاقة التنفّس الخلوي، كما أنّ انتقالَ الخليةِ من التنفّس الهوائي إلى التخمُّر يؤدّي إلى إنتاج الجذور الحرّة والتي تسبِّب بدورها طفراتٍ جديدةٍ مرتبطةٍ بالسرطان.
ما تزال العلاقةُ بين إنتاج الطاقة الخلوية والسرطان غيرَ واضحةٍ، ومع ذلك، فإنّ الباحثين في هذا المجال يؤمنون بأنّ العلاج الجديد للسرطان سيكون مرتبطاً بالاستقلاب الخلوي؛ فطالما أنّ الخلايا بطيئة النمو تعتمد على التنفّس الهوائي لإنتاج الطاقة، بينما تعتمد الخلايا ذات النمو السريع على التخمُّر كونه الأوفر بالنسبة لها، فإنّ التدخّل في عمليات التخمُّر الخلوي يُمكن أن يكون وسيلةً فعّالةً لإبطاء نموّ الخلايا السرطانية وبالتالي فإنَّ تخفيضَ المردود الطاقي للتخمُّر وجعلَ الخلايا السرطانيةِ تتنفّسُ سيعملُ على إبطاءِ نموِّها والحدِّ من انتشارها.
المصادر:
البحث الأصلي: هنا
تعريف التخمُّر: هنا
تعريف التنفُّس الخلوي: هنا
تعريف الاستقلاب: هنا