كتاب > الكتب الأدبية والفكرية
مراجعة كتاب (العدالة كإنصاف): كي ننهض بمجتمعنا
أثارَ كتابُ "نظرية في العدالة-العدالة كإنصاف" الصّادر عام 1971، ضجّةً في الأوساطِ الاجتماعيّة والسياسيّة والفلسفيّة، وانقسم المعنيّون حولهُ بين مُؤيدٍ ورافضٍ لطروحاتهِ. وبعد صدورِ الكتابِ وكثرةِ التّعليقاتِ عليهِ تبيّن لرولز أنّ كتابهُ ينطوي على ثغراتٍ عِدّةٍ، فما كانَ منهُ إلّا أن يُتبعَهُ بكتابِ "العدالة كإنصاف-إعادة صياغة" والذي صدرَ عام 2001.
و يُمثّلُ هذا الكتابُ إعادةَ شرحٍ لعملِ (رولز) السّابق بالإضافةِ لمحاضراتٍ كانَ قد دَرّسها في جامعةِ (هارفرد) في ثمانينيّاتِ القرنِ الماضي، ويُعدُّ هذا الكتابُ خلاصةَ جُهدهِ فيما قدّمه من أعمال سابقة.
يُقدّمُ الكاتبُ لنا مُراجعةً لما سبقَ وأن طرحهُ، بالإضافةِ لتَطرّقِهِ لمسائِلَ ومواضيعَ فاتَتْهُ في كتابهِ السّابقِ، حيثُ يتطرّق لمعنى العدالة كإنصاف، وهي بمثابةِ عقدٍ اجتماعي ٍبينَ مُواطني الدّولة الواحِدة، و اتفاقٌ مشتركٌ على مفهومٍ سياسيٍ للعدالةِ في مجتمعٍ ديمقراطي حديث.
ويطرحُ رولز في كتابهِ التساؤل التالي: "هل العدالة كإنصاف قادرة فعلاً على توليدِ دعمٍ كافٍ لذاتها؟". إن هذا المفهوم، وباعتبارهِ صورةً للمذهبِ الليبرالي السّياسي، يجبُ أن تكونَ معقولةً ومقبولةً وعقلانيّةً، وتَحتكِمُ للنّظامِ الدّستوري، فهيَ ليست عقيدةً دينيّةً أو فلسفيّة أو أخلاقيّة شاملة، بل مفهومٌ سياسيٌّ خاص، ينطبقُ أولاً على البُنية الأساسيّةِ للدولةِ والمجتمع، فيما يعتبرُ أن المسائلَ الأُخرى الخاصّةَ بالعدالةِ المَحليّةِ والعالميّةِ، تستدعي اعتباراتٍ أخرى منفصلة، كما يرى أنّ المفهومَ السّياسي للعدالةِ يكمُنُ في صياغةِ إطارٍ فِكريّ، وليسَ بإخبارِنا كيفَ يُمكِن حلُّ المسائلِ المُتعلّقة بذلك.
وتبدأ "العدالة كإنصاف" بدراسةِ الحالاتِ الخاصّة للبُنيةِ الأساسيّة لكلّ مُجتمعٍ، ثمّ تعملُ على تنظيم تلك البنية، وفقًا لمبادئ يجبُ أن تكونَ معقولةً وعادلةً ويمكنُ تطبيقُها في المؤسّسات والجمعيّات وفي الممارساتِ الاجتماعيّة عُمومًا. كما تفرضُ حدودًا على هذهِ التّنظيماتِ الاجتماعيّة بالنّظرِ إلى أهدافها ومقاصِدِها ومتطلّباتِها الخاصّة.
يُقدّمُ هذا الكتابُ نظريّةً تبحثُ في تطبيقِ الإنصافِ في كافّةِ الأمورِ الحياتيّة البسيطةِ، والتي من المُمكنِ أن تؤثر على هيكلِ الدّولة، فلتحقيقِ المُساواة الحقيقيّة بين الرّجالِ والنّساء، مثلًا، في الحفاظِ على المُجتمع وثقافتهِ وإعادةِ إنتاجِ نفسهِ، تتولّدُ حاجةٌ لوجودِ مادةٍ في قانونِ الأُسرَة، بحيثُ لا يقعُ عبءُ الأطفالِ وتَنشئَتِهم وتعلميهم بصورة أثقل على النّساء. وقد طُبِّق في اليونان القديمة مبدأ مُمارسةِ الحقوقِ والواجباتِ على أساسِ حجمِ مشاركةِ الفردِ في الحياةِ الاجتماعيّة، فلا يكونُ الإنسانُ إنسانًا ولا يُعبِّر عن إنسانيّتهِ بالطريقة المُثلى إلا من خلال مساهمتهِ في مجتمعهِ. بالتّالي فإنَّ مفهوم الشّخصِ الحُر المُتساوي مع غيرهِ، هوَ مفهومٌ مِعياريّ مَصدرهُ تفكيرُنا الأخلاقي والسّياسي ومُمارساتُنا الاجتماعيّة.
ويرمي (جون رولز) في كتابهِ، لتطبيقِ نظريّتهِ في المُجتمع على أساسِ استبعاد النزاعات الجدليّة المُزمنة، وتجنُبِ الاعتمادِ على أيّ نظريّةٍ شموليّة، حيثُ أنّ فكرة "العدالة كإنصاف" تسعى لتحقيقِ الاعتدالِ في النّزاعاتِ السياسيّة، وتمهّدُ الطّريقَ للتّعاونِ الاجتماعي المُنصِفِ بين المواطنين، ويرى أنّ تنوّعَ العقائدِ والأيدولوجيّات، هي حالةٌ ديمقراطيةٌ مطلوبٌ وجودها في المجتمع.
وفي القسم الثاني من الكتاب، يناقشُ (رولز) البُنية الأساسيّة للمجتمعات، معتبرًا أنّ العدالةَ السّياسيةَ هيَ اللّبِنة الأولى في مؤسّساتِ الدولةِ الرئيسية، ويشرحُ كيفّةَ عملها بشكل ٍ ملائمٍ في نظامٍ تعاونيٍّ مُوَحّد، ويُلخّصُ الكاتبُ مبادئَ العدالة بأنّ لكلّ شخصٍ ذاتُ الحقوقِ التي لا يُمكنُ الغاؤها، ولهُ قدْرٌ من الحُرّياتِ الأساسيّةِ المُتساوية والمُتّسقةِ مع نظامِ الحُرياتِ العامّة. كما أنّهُ يجبُ أن تُحقّقَ المساواةُ الاجتماعيّةُ والاقتصاديّةُ شرطين أساسيّين، هما:
1. أن المساواةَ المُتعلّقةَ بالوظائفِ يجبُ أن تكونَ مفتوحةً للجميعِ وضمنَ ظروفِ مساواةٍ مُنصفةٍ.
2. أن تكونَ ظواهرُ المساواةِ مُحَقِّقةً لمصلحةِ أكبرِ عددٍ من أعضاءِ المجتمعِ. وهذا ما يُسميه رولز "مبدأ الفرق".
وينتقلُ (جون رولز) في القسمِ الثّالثِ من الكتابِ للإشارةِ بأنّ المشاركةَ في المجتمعِ ووضعِ مبادئهِ خيارٌ يتبنّاه الأحرارُ، بحيث يختاروا مُمثّليهم بعيدًا عن انتماءاتِهم إلى هذهِ الطبقة أو تِلك، أو وفقًا لثرواتهم ونفوذهِم. ويربطُ الكاتبُ بينَ تطبيقِ العدالةِ من جهة، واتّباعِ الحريّاتِ الأساسيّة بصدقٍ وأمانة وتحقيق منفعةٍ شاملةٍ كاملةٍ للمجتمع من جهةٍ أخرى؛ فتحقيقُ المنفعةِ القُصوى مشروطٌ بِتحرّي تطبيقِ العدالة، وأنّ الاستقرارَ هو نتيجةُ وجودِ مبادئَ تُؤمّنُ المصالحَ الأساسيّة للمواطنين، ومن ثمّ تَحرّكُ الأطرافِ المُشاركة لتأمينِ تلكَ المصالحِ.
وفي القسمِ الرّابعِ، يبحثُ الكاتبُ في عدالةِ وكفاءةِ مُؤسّساتِ الدّولة، ويطرحُ السّؤالَ التالي: "أيّ نظامٍ من الأنظمةِ الخمسةِ المعروفةِ يُحقّقُ مبدأ العدالة؟" لتكونَ الإجابةُ على هذا السّؤالِ مُرتبطةً بالظّروفِ التاريخيّة للمجتمعِ وتقاليدِ فِكرهِ السّياسي ومُمارساتِه. ويرى (رولز) أنّهُ على المؤسّساتِ أن تضعَ في أيدي المواطنين عامّة -لا في أيدي قِلّة منهم- وسائلَ إنتاجٍ كافيةٍ تَجعلُهم أعضاءً فاعلينَ بحقّ في مجتمعاتهم. ويقترِحُ شرطينِ لضمانِ القيمةِ المُنصفةِ للحُريّاتِ الأساسيّة، الأولى تأمينُ دخولِ أيّ مواطنٍ في العمليّة السياسيّة، وأن يكونَ ذلك ضمنَ قواعدَ وإجراءاتٍ دُستوريّةٍ تعملُ على ضبطِ الدّخولِ إلى مراكز السُّلطةِ السياسية.
ويتطرّقُ (رولز) للأسرةِ بصفتِها نواةُ الإنتاجِ في المجتمع ومصدرَ ثقافتهِ من جيلٍ إلى جيل، وهي المسؤولةُ عن تنميةِ حسِّ المواطنين بالعدالةِ والفضائلِ السياسيّة.
كما يبحثُ في ووجوبِ احتكامِ المؤسسات الدينية للقانونِ وعدمِ أحقّيّتِها بممارسةِ عدم التّسامح ضدّ ما تراهُ جريمةً، ويجد (رولز) ضرورةً في إلزامِ المنشآتِ والمؤسّسات كافّةً داخلَ الدّولةِ بالاحتكامِ للقانونِ الذي يُعدُّ من أهمّ مبادئ العدالةِ، بحيثُ يكونُ الجميعُ تحتَ سقفهِ بالاستنادِ لمصلحةِ المجتمعِ كَكُل. ويحثّ الكاتبَ المواطنين على تطبيق المواطنة بشكلٍ فعلي، وذلك بافتراضه أن الكل -والكل دون استثناء- راغبٌ في العمل وفي أن يقوم كل فردٍ بتحمّل قِسطًا من المشاركةِ في أعباءِ الحياةِ الاجتماعيةِ وذلكَ شريطةَ أن يرى الجميع أن شروط التعاون مُنصفة.
إنَّ أحد أسبابِ انهيار المجتمعات هو تفكّك البُنية الاجتماعيّة فيها، وغيابُ التّعاون البنّاء بين أفرادِ المجتمع الواحِد، و يُعدُّ الجهلُ عائقًا يَحُولُ دونَ الوصولِ للعدالةِ وبلوغِ الدّولِ للدرجةِ الفُضلى والمُثلى، والرّهانُ على تطبيق العدالةِ بشكلٍ مجرّدٍ، قد يكونُ في مكانٍ وزمانٍ مُعيّنين ظلمًا، أمّا "العدالة كإنصاف" فهي ما نستطيعُ أن نُعوّلَ عليهِ، وعلينا تحرّي تطبيقها في مُجتمعاتِنا من خلالِ الاحتكامِ لخصوصيّةِ كل مجتمعٍ وظروفهِ التاريخية والحضاريّة والاجتماعية؛ فالعدالةُ قد تكونُ سهلةَ التّطبيق، أمّا الانصافُ الحقيقي فهو الاختبارُ الصّعبُ عند الحديثِ عن سعينا لرفعةِ المجتمع.
معلومات الكتاب:
الكاتب: جون رولز.
الكتاب: العدالة كإنصاف –إعادة صياغة.
ترجمة: د.حيدر حاج إسماعيل.
مراجعة: ربيع شلهوب
بيروت: المنظمة العربية للترجمة،مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى،2009
قطع المتوسط، يقع في 436 صفحة.