المعلوماتية > عام
التفاعل بين الإنسان والحاسوب (HCI)
يعدُّ التفاعل ما بين الإنسان والحاسوب Human-Computer Interaction (HCI) مجالاً واسعاً للبحث والممارسة، وقد ظهر في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، حيث بدأ كمجالٍ تخصصّي ضمن علوم الحاسوب محتضناً العلوم المعرفية وهندسة العوامل البشرية. وقد توسّع HCI بسرعةٍ كبيرة وبشكلٍ مطّرد على مدار ثلاثة عقود جاذباً الخبراء من اختصاصات متعددة أخرى، ودامجاً العديد من المفاهيم والتوجّهات. ويجمع HCI الآن وإلى حدٍّ كبير مجموعةً من مجالات البحث والممارسة شبه المستقلّة وذلك في المجال المعلوماتي المتمحور حول الإنسان. ونتيجةً لدمج العديد من المفاهيم المتنوّعة، فقد أعطى HCI مثالاً مهمًّا عن إمكانية تكامل النماذج المختلفة لتشكيل نموذجٍ فكري حيوي ومُنتج.
من أين أتى HCI؟
اقتصر تفاعلُ البشر مع الحواسيب حتى أواخر سبعينيات القرن الماضي على خبراء تقانة المعلومات، بالإضافة إلى الهواة الذين كرّسوا كامل وقتهم لذلك. ولكن ذلك تغيّر بعد ظهور الحواسيب الشخصية في وقتٍ لاحق؛ فقد جعلت هذه الحواسيبُ الشخصية من كل البشر مستخدمي حاسوبٍ محتملين، وذلك بما تحويه من برمجياتٍ شخصية (كبرامج تحرير النصوص والألعاب التفاعلية) ومنصّاتٍ برمجية شخصية (أنظمة التشغيل ولغات البرمجة والعتاديّات)، كما أنها سلّطت الضوءَ على أوجه الضعف والقصور في أجهزة الحاسوب فيما يتعلّق بسهولة الاستخدام لمن يرغب باستعمال الحاسوب كأداةٍ لا أكثر.
وقد أصبح تحدّي الحواسيبِ الشخصية واضحاً في الوقت المناسب لذلك؛ حيث ظهر في أواخر السبعينيات المشروعُ الواسع للعلوم المعرفية، والذي تضمّن علمَ النفس المعرفي والذكاء الصُنعي واللغويات وعلم الإنسان المعرفي وفلسفة العقل. وقد كانت الهندسة المعرفية (cognitive engineering) جزءاً من ذلك البرنامج، وكان الهدفُ منها توضيحَ التطبيقات المنهجية والعلمية. وهكذا وعندما أظهرت الحواسيبُ الشخصية حاجتَها إلى HCI، قامت العلومُ المعرفية بتقديم الناس والمهارات والمفاهيم التي ستعالج هذه الاحتياجات من خلال الجمع الطموح ما بين العلوم والهندسة، وبذلك تكون HCI من أولى أمثلة الهندسة المعرفية.
كان المعالج البشري نموذجاً أوّلياً للهندسة المعرفية، وقد هدف إلى مساعدة المطوّرين والمبرمجين على تطبيق المفاهيم من وجهة نظر علم النفس المعرفي:
كما تمّ وضع معلوماتٍ بسيطة وسهلة الاستخدام عوضاً عن المواضيع المنظّمة هرمياً، وذلك لدعم العمل الموجّه ذاتياً ومساعدة الناس على ملاحظة وتصليح الأخطاء بمفردهم، حيث يعرض المخططُ الوارد تعليماتٍ خاصة باستخدام الأسهم ضمن لوحة المفاتيح لتحريك مؤشر الكتابة ولرفع وإنزال الصفحة المعروضة لرؤية الملف كاملاً (scrolling)، بالإضافة لعملية الحذف عند الكتابة الخاطئة:
وقد ساهمت عوامل أخرى تاريخياً في تشكيل HCI، حيث بدأت هندسةُ البرمجيات (التي كانت غارقةً في التعقيد البرمجي غير القابل للسيطرة في أواخر السبعينيات) بالتركيز على المتطلبات غير الوظيفية كسهولة الاستخدام وقابلية الصيانة، وعلى عمليات التطوير التجريبية التي تعتمد بشكلٍ كبيرٍ على النماذج التكرارية والاختبارات التجريبية. كما ظهرت الرسومياتُ الحاسوبية واستعادةُ المعلومات في السبعينيات والتي اكتشفت أن الأنظمةَ التفاعلية هي المفتاح لتحقيق الإنجازات المبكّرة.
الانتقال من التخصيص إلى التعميم:
لقد كان التركيز الأساسي في مشروع HCI على سهولة الاستخدام (Usability)، وقد ارتبط مفهومُ سهولة الاستخدام بتعريف بسيط وهو سهولة التعلم (ما هو سهل التعلم يكون سهل الاستخدام). ولكن مفهومَ سهولة الاستخدام ضمن HCI كان دائمَ التطوّر مع حصول تغييرات في البنية حتى أصبح الآن يشملُ العديدَ من مقوّمات الجودة، فقد أصبحت سهولة الاستخدام تعني المرح والرفاهية والفعالية الجماعية والجماليّة ودعم الإبداع والتدفق ودعم التطوير البشري وغيرها. وبذلك أصبح من الممكن أن نقولَ أن سهولةَ الاستخدام هي الجودةُ التي تعكس الفهمَ الكامل لمبدأ التفاعل ما بين الإنسان والحاسوب HCI، فالمستخدمون يريدون أكثر من مجرد «سهولة الاستخدام» من أي نظامٍ لديهم.
وعلى الرغم من أن المجالَ الأساسي الذي احتضن HCI هو علومُ الحاسوب حيث كان تركيزها الأساسي على تطبيقات الإنتاج الشخصية (كمحررات النصوص وجداول البيانات)، إلا أن هذا المجالَ أخذ بالتنوع وتجاوزِ جميع الحدود؛ حيث توسّع بسرعةٍ ليشمل التصوّرَ ونظم المعلومات والأنظمة التعاونية وعمليات تطوير النظم وغيرها من مجالات التصميم، لذلك نراه انتقل من التطبيقات المكتبية الحاسوبية ليشمل الألعاب والتعليم والتجارة والصحة والتطبيقات الطبية والتخطيط لحالات الطوارئ. كما انتقل من استخدام الواجهات البسيطة إلى اعتماد تقنياتٍ تفاعلية لا تعدّ ولا تحصى كالتفاعلات متعدّدة الوسائط. وأصبح مجال HCI يُدرَّس ضمن العديد من الجامعات التي تتناول تقانةَ المعلومات بما في ذلك علم النفس والتصميم والاتصالات والعلوم المعرفية وعلوم المعلومات والعلوم الجغرافية ونظم المعلومات الإدارية والصناعة وهندسة النظم.
عند النظر إلى الشكل المعاصر لـHCI لا بدّ أن نتذكر هدفَها الأساسي والذي كان التفاعلاتِ الإنتاجيةَ الشخصية كمحرّرات النصوص كما ذكرنا. فكمثال عن كبرى أفكار التصميم في الثمانينيات نجد تصميم «المكتب الفوضوي» من آبل ماكنتوش، حيث تم عرضُ الملفات والمجلدات كأيقونات متناثرة في جميع أنحاء الشاشة. وقد كان تصميمُ المكتب الفوضوي حاضناً ممتازاً لتطوير واجهات المستخدم الرسومية، وعلى الرغم من أنها لم تكن سهلةَ التعلّم والاستخدام كما قال مبتكروها، ولكن استخدامَ النقر المضاعف وسحب الواجهات والأيقونات أصبح منتشراً ما بين الناس في تلك الفترة، وشكّل ذلك نقيضاً كبيراً لما يستخدم في Unix، حيث كان القيام بأي فعلٍ يحتاج لطباعةٍ أمرٍ ما.
ومع تطوّر HCI فقد تجاوز مفهوم سطح المكتب إلى ثلاثة مجالات. أول مجالٍ هو أن استعارة «سطح المكتب» أثبتت محدوديةّ أكبر من شكلها البدائي، فمن المقبول تمثيلُ بعض الكائنات الرقمية عن طريق أيقوناتٍ مبعثرة قابلة للتحريك، ولكن هذا المفهوم سرعان ما يقود إلى الفوضى ويصبح غيرَ مفيدٍ مع المستخدمين الذين يملكون آلاف الملفات والمجلدات الشخصية، ولذلك وفي منتصف التسعينيات، أدرك خبراءُ HCI إلى ضرورة وجود «تصفّح» للعثور على المجلدات والملفات المطلوبة ضمن واجهة المتسخدم، ولم يتمَّ إلغاءُ مفهوم التفاعل مع الأيقونات ولكنّه لم يعد هو المفهوم المهيمن.
وقد كان المجال الثاني ناتجاً عن هيمنة الإنترنت على الحوسبة والمجتمع. ففي منتصف الثمانينيات، ظهر البريد الإلكتروني كواحدٍ من أهم تطبيقات HCI، ولكن ذلك غيّر مفهومَ التفاعل، فلم يعُدِ الناسُ يتفاعلون مع الحاسوب عبر البريد الإلكتروني، بل انتقلوا إلى التفاعل مع بعضهم البعض عبر الحاسوب. وأصبحت الأدواتُ والتطبيقات الداعمة للنشاط التعاوني تشمل الآن الرسائلَ الفورية والمدوّناتِ والمنتديات والشبكات الاجتماعية والارتباطات الاجتماعية وخدماتِ إضافة الأوسمة (tagging) ومساحات وسائل الإعلام وأنظمةَ الفلترة التعاونية والمعتمدة على التوصية (recommendation) وغيرها من المجتمعات الموجودة على الشبكة. كما تلا ذلك ظهور نماذج وآليات جديدة للأنشطة الجماعية كالمزادات وأنظمة السمعة (reputation) وأجهزةِ الاستشعار وحشد المصادر الجماعية (crowdsourcing). إن كل ما سبق يوجد ضمنَ المجال سريع التطور والمدعو «الحوسبة الاجتماعية».
أما المجال الثالث فقد كان التنوّعَ المستمر في الأجهزة الحاسوبية. فقبل توحيد تطبيقات سطح المكتب، ظهر نوعٌ جديدٌ من الأجهزة كالحواسيب المحمولة التي ظهرت في بداية الثمانينيات، والأجهزة المحمولة في اليد والتي ظهرت في منتصف الثمانينيات. وجرى بعدها دمجُ الحوسبة أكثر ضمن بيئة الإنسان كالسيارات والأجهزة المنزلية والأثاث والملابس. وتعدّ سيري Siri (المساعد الذكي المعتمد على الخطاب في أجهزة الآيفون)، ونظاراتُ الواقع المضخّم (Augmented Reality) (ضمن مشروع نظارات غوغل) من أحدث الأمثلة على الرؤية التقنية التي تم تحويلُها إلى تجارب يومية متضمنة لمفهوم HCI.
يعدُّ نموذجُ تكامل البحث والممارسة من أهم إنجازات HCI، حيث بدأ هذا النموذجُ على أنه علاقة متبادلة ما بين العلوم المعرفية والهندسة المعرفية، وشمل لاحقاً علم النفس الاجتماعي والتنظيمي ونظرية النشاط والإدراك الموزَّع وعلم الاجتماع وعلم النشاطات البشرية، بما فيها أنشطة التصميم والتطوير التقني. وبذلك أنتج HCI مخطّطاً أولياً للعلاقة المتبادلة ما بين العلم والممارسة بشكلٍ لم يسبق له مثيل. وبذلك يكون النجاح المستمر لـHCI مستمراً في دفع المشروع الخاص به، ليس فقط في مجالات المعلوماتية المتمحورة حول الإنسان، ولكن ضمن نظرية المعرفية على حدٍ سواء.
المصدر: