الهندسة والآليات > التكنولوجيا
هل نحن أحرارٌ حقاً في أفعالنا؟ عندما تساعدنا التكنولوجيا في فهمِ أنفسنا
هل اتخاذُنا للقرارات مبنيٌّ على إرادتنا الحرة أم أننا مُجبرون بشكلٍ أو بآخر... وهل أدمغتنا هي من تقودنا أم نحن من نَقُودُها؟؟ أسئلةٌ غريبة تحاول التكنولوجيا الحديثة أن تُجيبَنا عنها في هذا المقال...
تمتلك أفعالُنا مساحةً من الحرية أكثرَ ممَّا كان يُعتقد حتى زمن ٍ قريب، تمَّ التوصُّل لذلك بعد مجموعةٍ من الاختبارات التي قام بها فريقٌ من الباحثين في مركز شاغتيه بيرنشتاين لعلوم الأعصاب الحاسوبية في جامعة برلين الطبية بقيادة البروفيسور جون ديلان هاينس بالتعاون مع البروفيسور بنيامين بلانكيرتس وماتياس شولتسي كرافت من جامعة برلين التقنية.
لقد حازت قضيةُ الجبريِّة والإرادة الحرّة منذ الأزل على اهتمامِ مجموعاتٍ كبيرةٍ من الفلاسفة وعلماء النفس وعلماء الأديان بالإضافة إلى طيفٍ واسعٍ من الناس العاديين، ودخلت هذه القضية ميدان البحث العلميّ في بداية ثمانينيات القرن الماضي.
ففي عام 1983 قام الباحث الأمريكي بنيامين ليبت بإجراءِ تجربةٍ على مجموعةٍ من الأشخاص، وكانت التجربة كالتالي:
أولاً يتمُّ وضعُ خوذةٍ لقياس التغيُّرات الكهربائية لدماغ الإنسان EEG، وأثناء ذلك يُطلبُ من المشترك الجلوسُ أمامَ شاشةِ الحاسوبِ ومراقبةُ صورةٍ لدائرةٍ تدورُ على محيطها من الداخل نقطةٌ سوداء.
ويُطلب من المشترك في أي لحظة -يحدِّدُها بنفسه-أن يختارَ موضعاً على محيط الدائرة ويضغطَ على زرٍّ محددٍ من أزرار لوحة المفاتيح عند وصولِ النقطة إلى هذا الموضع (أو أن يُحرِّك يده ويتمُّ تسجيلُ نشاط عضلات ذراعه EMG في تجربةٍ أُخرى).
بعد إجراءِ مجموعةٍ من التجارِب كانت النتائجُ صادمةً بالنسبة للباحث، حيث وجدَ أنَّ الفعل الإراديَّ الحر (الإرادةَ الحرّة) الذي يختارُه الإنسان يكون له بدايةٌ في مركزِ اتِّخاذ القرار في دماغ الإنسان قبلَ حوالي 500 ميللي ثانية من الفعل بحدِّ ذاته، وهذه البدايةُ عبارةٌ عن موجةٍ كهربائيةٍ مبهمةِ النشوء دُعِيت بالموجة ِالدماغية سابقةِ التَّحضير.
حتى يومنا هذا يَعتبِر العديد من العلماء وجودَ مثلِ هذه الأمواج الدماغية سابقةِ التحضير دليلاً على جبرية الأفعال الإنسانية، حيث أن إرادتنا الحرةَ ليست سوى وهمٍ لأنها بالأصلِ تبدأ من عملياتٍ دماغيةٍ غيرِ إرادية سابقة.
فيديو لتجربة ليبت
ومن جديد قام الفريقُ البحثي بقيادة البروفيسور جون ديلان هاينس بأخذِ المبادرة وإعادةِ النظر في تجارب بنيامين ليبت وذلك باستخدامِ أحدثِ تقنيات القياس والتحليل الحاسوبيِّ الموجودةِ حالياً، وانطلقوا من السؤال التالي: هل من الممكن إلغاءُ الحركة الإرادية بعد نشوءِ الموجةِ الدماغيةِ السابقةِ للفعل الإرادي؟
قام الفريق البحثي بأخذ عينةٍ من الأشخاص، بحيث يدخلُ كلُّ شخصٍ في لعبةٍ مع الحاسوب أثناءَ إجراءِ المسحِ الكهربائيِّ للدماغ EEG وتسجيلِ بياناتِ الأمواجِ الناشئةِ في مركز اتخاذ القرار في الدماغ، ويتمُّ إرسال هذه البيانات لتتمَّ معالجتُها باستخدامِ برنامجٍ خاصٍّ بحيث يعطينا هذا البرنامج توقُّعاً للحركة التي سيقوم بها المشترك، وذلك اعتماداً على تحليل الموجةِ السابقةِ لاتخاذ القرار.
أظهرتِ النتائجُ أن المشتركين كانوا قادرينَ في مراحلَ ما على التدخل بشكلٍ سليم في عملية تنفيذ القرار الدماغي واعتراضِ تنفيذ الحركة، ولكن ضمنَ حدٍّ زمنيٍّ معين ينتهي بنقطة سُمِّيت نقطةَ اللاعودة. وهذا يدلُّ بشكلٍ واضحٍ جداً على أن إرادةَ الشخصِ ليست تحت رحمةِ الأمواجِ الدماغيةِ سابقةِ التحضير.
أي أن الأفعال الإنسانية ليست خاضعةً للأمواجِ الدماغية سابقةِ التحضير أو النشوء طالما استطاع الإنسانُ إيقافَ مثلِ هذه الأفعال، وهذا ما يعطينا هامشاً كبيراً من الإرادةِ الواعيةِ الحرَّة.
الدماغُ البشري أقربُ شيءٍ إلينا وأبعدُ شيءٍ عنا. لاتزال التكنولوجيا تحاول أن تسبرَ أغوارَه علَّنا نتعرَّفُ أكثر على أنفسنا وطريقة تفكيرنا.
المصادر :