البيولوجيا والتطوّر > منوعات بيولوجية
كيف تتمكّن الأسماك والبرمائيّات من رؤية الأشعّة تحت الحمراء
تعتبر قدرةُ أسماك المياه العذبةِ والكائنات البرمائية، بما فيها الضفادع، على التنقل بين نظامي الإبصار البحري والنهري؛ من الظواهر البيولوجية التي حيَّرتِ العلماء قرابة المئة سنة، فمن المعروف أنَّ أشعَّة الضوء الزرقاء الواقعة في بداية الطيف المرئيِّ (انظر الصورة في الأسفل) تنفَذُ إلى مسافاتٍ أعمقَ في المحيطات وذلك بسبب طاقتها العالية بخلاف الأشعَّة تحت الحمراء ذات الطاقة المنخفضة.
وعندما يحينُ موسِمُ الهِجرة تضطرُّ أسماكُ السَّلَمون إلى الانتقال من البيئةِ البحريَّة، المشبَعَة بالأشعةِ الزرقاء، إلى البيئة النهريَّة الشحيحةِ بتلك الأشعة، حيث تعملُ الطحالبُ والمياه الطينيَّة على حجبِ الأشعَّة الزرقاءَ مبقيةً على الأشعةِ تحت الحمراء.
إنَّ مثل تلكَ الهجرةِ قد تُعَدُّ معضلةً حقيقيةً بالنسبةِ للإنسانِ؛ وهو الذي يعجَزُ عن الإبصار بوجود الأشعَّة تحت الحمراء فقط، إلَّا أنَّ هذا لا يعدُّ تحديًا بالنسبةِ لتلكَ الأسماكِ لأنها تتمكَّن وبكلِّ سهولةٍ من تبديلِ نظامِها البصريِّ لتتكيَّف مع مثل هذا التغيُّر.
وللمرَّة الأولى، تمكَّن علماءٌ من كليةِ الطبِّ في جامعة واشنطن من حلِّ هذا اللغز المحيِّر، حيث يقول رائد البحث الدكتور جوزيف كوربو: "لقد اكتشفنا أنزيم ا يعملُ على تغييرِ النظام البصريِّ لبعضِ الأسماكِ والبرمائيَّات، والذي يؤدي إلى تعزيز قدرتها على رؤيةِ الأشعةِ تحتِ الحمراء"، وأضاف الدكتور موضّحاً: "فعلى سبيل المثال، تقومُ أسماكُ السلمون بتفعيل أنزيم خاص عند هجرتها من المحيطات إلى الجداولِ المائية ممَّا يولِّد تفاعلاً كيميائيًا يغير من نظامِ إبصارِ تلك الأسماك فتتمكن من سبر أغوارِ المياهِ المعتمة".
وقد تبيّن أنَّ الأنزيم المسؤولَ عن هذه العمليَّةِ هو أنزيم Cyp27c1 والذي يرتَبِطُ بصورةٍ كبيرةٍ بفيتامين A المعروف بخصائِصِهِ المُحَسِّنةِ للإبصار، خاصَّةً في البيئات ذاتِ الإنارةِ الضعيفة.
يقوم هذا الأنزيم بتحويل فيتامين A1 إلى فيتامين A2، ومن المعروف أنَّ لفيتامين A2 خصائصٌ مذهلةٌ تُعَزِّزُ من القدرةِ على رؤيةِ الأشعةِ الضوئيَّةِ ذاتِ الموجات الطويلة كالأشعةِ الحمراء وتحت الحمراء.
إنَّ هذه النتائجَ قد تقودُ إلى تطوُّراتٍ هامَّةِ في الأبحاث الطبية وبشكل أخصَّ في مجال عِلْم البصريَّات الوراثيِّ Optogenetics، والذي يعدُّ من الحقولِ الجديدةِ والهامةِ التي يُستخدَم فيها الضوءُ للتحكمِ بعملِ الخلايا العصبيَّة في الدماغ. إلَّا أنّ تطبيقات علم البصريات الوراثيِّ منحصرةٌ حالياً في الضوء المرئيِّ والذي يتمكنُ من اختراق الطبقةِ العليا من الأنسجة العصبيَّةِ فحسب.
وفي حال استطاعَ العلماءُ الاستفادةَ من هذا الأنزيم، فإنّهم لربما قد يتمكنون من تفعيلِ عصبوناتٍ ضوئيةٍ عن طريق الأشعةِ تحت الحمراء؛ والتي تنفذُ إلى مسافاتٍ أعمقَ داخل الجسم.
يقول الدكتور جوزيف: "إنّ هذه الأنزيماتِ قد تُساعدُنا في سَبْرِ أعماقِ الدماغ بنفس الطريقةِ التي تساعدُ الأسماكَ في سَبْرِ أغوارِ المياهِ المعتمة ".
وقد تمَّ اكتشافُ الأنزيمِ، الذي دارت حولَه التجربة، في أسماكِ "الزيبرا" (وهي أسماكٌ صغيرةٌ وشفافّةٌ تعيشُ في المياهِ العذبةِ ولها أهميَّةٌ كبيرةٌ في مجال البحثِ المخبري)، و تمَّ تعزيزُ تلكَ النتائجِ في دراسةٍ أُجرِيَت على الضفادعِ الأمريكيةِ الكبيرة، والتي تمتلك عيوناً ذاتِ تصميمٍ مميَّزٍ تمكنها من الرؤيةِ في البيئةِ الضوئية فوقَ مستوى الماءِ وتحتهِ.
تسبح تلك الضفادع بعيون ملامسة لسطح الماء كي تتمكَّن من النَّظَرِ إلى الأعلى -نحو السماء- و إلى الأسفل -في الماء- في الوقت ذاته. وقد وجد الباحثون فيتامين A2 وأنزيم Cyp27c1 في المكان الذي توقّعوه تمامًا، أي في النِّصفِ العُلويِّ من عيون تلك الضفادع والمستخدمَةْ للرؤيةِ المائيةِ (النظر نحو الأسفل). لكنّهم لم يجدوا ذلك الفيتامين أو الأنزيم في النصف السفليِّ من عيونها والتي تستخدمها تلك الضفادع للرؤية الهوائية (النظر نحو الأعلى).
وبالإضافة لذلك بيَّنَ العلماءُ أنَّ أسماك الزيبرا الحاملةِ لنسخٍ طبيعيةٍ من جين Cyp27c1 تنجذبُ نحو الأشعَّةِ تحت الحمراء عندما يتمُّ تسليطها (أي الأشعة) على حوضِ أسماكٍ معتمٍ. إلَّا أنَّ الأسماكَ الحاملةَ لنُسَخٍ معطوبةٍ من جين Cyp27c1 لا تتأثّر بالمرَّة عند تسليطِ الأشعة، بل تستمرُّ في حركتها الاعتياديةِ وسطَ البيئةِ المظلمةِ وكأنَّ شيئاً لم يكن.
يمتلكُ الإنسانُ نسخةً من نفسِ الجين إلَّا أنَّها نسخٌ غير مفعَّلةٍ في العين. ولذلكَ يعجزُ الإنسانُ عن الرؤيةِ في بيئةٍ تحتوي على الأشعة تحت الحمراء فقط، وذلك بخلاف تلك الأسماك. ولكي يتمكَّنَ الإنسانُ من الإبصار وسطَ تلك البيئة فإنَّ عليه أن يرتدي منظاراً للرؤية الليلية.
يقول كوربو "لا نعلم بعد كيف يمكننا توظيف هذا الأنزيم في جسم الإنسان. وبالرغمِ من عجز العينِ البشريَّةِ عن صنع فيتامين A2 لا يعني أنّنا لا نستطيع استخدامه".
أظهرت إحدى الدراسات التي أُجريَت على طلاب إحدى كليَّاتِ الطبِّ، بين عامي 1940 و1950، أنّ الطلّاب الذين يستهلِكونَ فيتامين A2 لديهم قدرةٌ أكبر على رصدِ الأشعةِ الحمراءَ وتحتِ الحمراء. وفي عام 2013 نجحت مجموعةٌ من "قراصنةِ البيولوجيا" في جمع تبرُّعاتٍ لإجراء تجربةٍ تحاولُ التحسينَ من قدراتهم البصرية لكي يشملَ مجالُ إبصارهم منطقةَ الأشعةِ القريبة من الحمراء (في مجال الطيف) وذلك عن طريق اتباع نظام غذائيٍّ غنيٍّ بفيتامين A2.
وعلّق الدكتور كوربو على هذه التجربة قائلاً: "لا أنصح بالضرورة باتباع نظامهم الغذائي لكنَّ الفكرة العامة وراء تجربتهم صحيحة".
ملاحظة:
* تمتلك جميع إشعاعات الضوء باختلاف أطوالها الموجيَّة سرعة واحدة، وهي سرعة الضوء في الفراغ 3.00×108 متر/ ثانية.
* الاختلافات بين الموجات الضوئيّةِ تُحدَّدْ بالاختلافات في طول الموجات وتردداتها. حيثّ أنّ العلاقة بين طول الموجات وتردّداتها تحدّد بالعلاقة التالية:
c = λν
c هي سرعة الضوء (الثابتة)
λ هو طول الموجة
ν هو تردّد الموجة
بحسب العلاقة الرياضيَّة أعلاه، يجب أن يزدادَ تردُّد الموجةِ في حال تناقصَ طولها، والعكس صحيح لأنَّ سرعةَ الضوءِ ثابتة. وهذا يعني أنَّ للموجات ذاتِ التردداتِ العاليةِ أطوالٌ موجيةٌ قصيرةٌ بخلافِ الموجاتِ ذاتِ الترددات المنخفضة والتي تمتلك أطوالاً موجيةً أكبر.
* إنَّ طاقة الموجة تحدَّدُ بعلاقة بلانك التالية:
E = h*f
E هي طاقة الموجة (تقاس بالجول)
h هو ثابت بلانك (6.63 × 10-34 جول. ثانية)
f هو تردّد الموجة ( 1 / ثانية)
إنَّ معادلةَ بلانك ضروريَّةٌ وهامَّةٌ لفهم ارتباط ترددِ الموجاتِ بالطاقة التي تَحمِلُها، حيث إنَّ الموجات ذاتِ الترددات العاليةِ تمتلك طاقةً أعلى من الموجات ذات الترددات المنخفضة، ولذلك تحمل الأشعة الزرقاء طاقةً أكبرَ من طاقةِ الأشعة الحمراء وتحت الحمراء.
المصادر:
البحث الأصلي: هنا