التعليم واللغات > اللغويات
اللهجاتُ العربيةُ المحكية.. ظاهرةٌ طبيعيةٌ أم تشويهٌ للُّغة؟
تَعدُّدُ اللهجاتِ ظاهرةٌ طبيعيةٌ في جميعِ اللُّغات، فما إن تنتشرَ لغةٌ وتشيعَ على الألسُنِ حتى تتنوّعَ لهجاتُها وطرائق أدائِها بين أفراد المجموعة اللغوية. واللغة العربية كغيرها من اللغات عَرفت، وما تزال تعرف، تنوعًا كبيرًا في لهجاتها، ولكن مِن اللافت حقًا أن بعض اللهجات المعاصرة لها جذورٌ متأصلةٌ في لهجاتِ القبائلِ العربيةِ منذ القدم، فعلى سبيل المثال تُسقِطُ أغلبُ اللهجاتِ المحكيةِ اليوم الهمزةَ أو تُليِّنُها، فجمهورُ الناطقين بالعربيةِ يقول (راس، بير، سنان، ذيب) عوضًا عن (رأس، بئر، أسنان، ذئب)؛ والغريبُ في الأمر أن هذه اللهجةَ كانت تنتشرُ بين قبائلِ الحجاز وعلى رأسِها قريش، وهناك العديدُ من الظواهرِ التي تُؤكِّدُ صلةَ اللهجات المعاصرة باللهجات العربية القديمة، وفيما يأتي أبرزُها:
العنعنة: وتعني لفظَ حرف الهمزة كحرف العين، فيقال (سَعَلَهُ) بدلًا من (سألهُ)، وقد كانت هذه اللهجةُ شائعةً لدى بعض القبائل العربية القديمة كتميمٍ وأسد، وما زال أثرُ هذه اللهجة ظاهًرا اليوم في بعض مناطق العراق وشرقي بلاد الشام. ويقولُ أهلُ صعيدِ مصر (لع) عوضًا عن (لأ)، وكانت قبيلةُ طيء تبدلُ بالهمزة هاءً على نحو ما هو شائعٌ اليوم في بعض كلام أهل الساحل في سورية، فيقولون (هِنت) بدلًا من (أنت).
التلتلة: يَشيعُ بين متحدثي أغلب لهجات اللغة العربية اليوم أن يأتوا بحرفِ المضارعة (أولُ حرفٍ في الفعل المضارع) مكسورًا، والأصلُ في اللغة العربية أن يكون مفتوحًا أو مضمومًا، فعلى سبيل المثال يقولُ القائل (نِكتب) أو (تِعمل) بكسر النون والتاء، والأصلُ فيهما (نَكتب) و(تَعمل) بفتح حرفي المضارعة. وقد وردَ في معجم لسان العرب أن هذه اللهجةَ كانت شائعةً في كثيرٍ من قبائل العرب كأسد وتميم وربيعة وقيس وعامة العرب.
الاستنطاء: ذكرَ اللغويون أن بعض قبائل العرب كانت تقلِبُ حرفَ العين نونًا في كلمة (أعطى) ومشتقاتها، فيُقال (أنطى) و(ينطي) بدلًا من (أعطى) و(يعطي)، وما يزال أهلُ العراقِ اليوم ينطقون بهذه اللهجة.
الشنشنة: وهي من الظواهرِ المتعلقة باللهجات والتي تجدُ لها امتدادًا في حاضرنا، والمقصودُ بها قلبُ حرف الكاف شينًا، فيقولون (عَليش) بدلًا من (عَليك)، وما تزالُ هذه اللهجةُ متداولةً في حضرموت وأجزاء من جنوبي شبه الجزيرة العربية اليوم.
إبدالُ الجيمِ ياء: ذكر اللغويون أيضًا أن بعضًا من قبائل العرب كانت تقلبُ الجيمَ ياءً عند النطق، وهذا الأمرُ واضحٌ في لهجة أهل الخليج العربي وجنوبي العراق حيث يقولون (ياني) عوضًا عن (جاني) أو (شَيَر) عوضًا عن (شَجَر).
الكَشْكَشَة: كانت قبائلُ ربيعة ومضر وبكر وتميم وغيرها تقلب كافَ الخطاب للمؤنث شينًا أو تُلحِقُها إيّاها عند الوقف، فبدلًا من (رأيتكِ) يُقال (رَأيْتُكِش) أو (رَأيْتِش)، وقريبٌ من هذا ما يتكلمُ به جماعةٌ من أهل حوران وبوادي الأردن جنوبي بلاد الشام.
الكَسْكَسَة: وهي مثلُ الكشكشة، ولكنْ تُقْلَبُ كافُ الخطاب للمؤنث سينًا أو تُلحَقُ بها، وهي لهجةٌ شائعةٌ على ألسنة أهل نجدٍ اليوم، فيقولون (بِس) و (مِنس) بدلًا من (بِكِ) و(منكِ)، ويقولون (تسيف حالتس) بدلًا من (كيف حالك). وقد ذكرَ علماءُ اللغة أن هذه اللهجة كانت في قبائل بكر وهوازن وبعضِ ربيعة.
القَطْعَة: أما القَطْعَة فكانت لغةَ طيءٍ الذين كانوا يهملون نطق الحروفِ في آخرِ الكلمة، فيُقال (أبا الحكا) بدلًا من (أبا الحكم)، وفي الساحل السوري كما في بعض مناطق مصر اليوم مَن ينطقُ بهذه اللهجة القديمة، ومن أمثلة ذلك قولهم (يا ولَ) بدلًا من (يا ولد).
حذفُ نون حرف الجر (من): يكثرُ في لهجات العربية المعاصرة حذفُ النون من الحرفِ (من) فيقال (مِالبيت) بدلًا من (من البيت)، وتنتشرُ هذه اللهجة في كثيرٍ مِن البلاد العربية وهي لهجةٌ عربيةٌ قديمة عرَفَتْها قبائلُ خثعم وزبيدة.
التحوير في نطق الأصوات: كأن يُلفظَ القافُ أقرب إلى الهمزة كما في لهجات بعض أهل الشام ومصر، أو أن يُلفظَ كالجيمِ المصرية كما في الخليج العربي والعراق، وصورة القاف هذه قديمةٌ وكانت معروفةً في قبيلة تميم. ومن ذلك أيضًا الإمالة، التي يُقصد بها نطقُ الألفِ أقربَ إلى الياء على النحو المعروف في كلام بعض الناس في لبنان وأجزاءٍ من الساحل السوري.
وفي المحصلةِ نجدُ أن اللهجات مهما تعددت تبقى صورًا للتعبيرِ عن أصلٍ واحد، وما التنوعُ في هذه اللهجات سوى ظواهر أنتجتها عواملُ البيئة والجغرافية والمناخ والوراثة واختلاط العرب بغيرهم، وتعددُّ اللهجاتِ ظاهرٌ في جميع اللغات، وهو أمرٌ لا بدَّ أن تمرَّ به أية لغةٍ في دورة حياتها.
المصادر:
عبد التواب رمضان: فصول في فقه اللغة
عبد التواب رمضان: بحوث ومقالات في فقه اللغة
تيمور باشا أحمد: لهجات العرب عبد الواحد
وافي علي: فقه اللغة