البيولوجيا والتطوّر > التقانات الحيوية

النباتات... معاملُ الأدوية المستقبلية

استمع على ساوندكلاود 🎧

رشَّةٌ من البقول بدلاً من أدوية القلب، أو كأسٌ من شاي الأعشاب بدلاً من العلاج التقليدي للسرطان... يبدو الأمرُ مُثيراً! وعقِب بعض التفسيرات العلمية سيغدو أكثر إثارةً!

حصل عالِما الكيمياء الحيوية ديفيد كريك "David Craik" من جامعة كوينزلاند ومارلين أندرسون "Marilyn Anderson" من جامعة لا تروبي الأستراليتين على جائزة Australia’s Ramaciotti Biomedical Research التي تبلغ قيمتها 700,000$ بهدف تطوير مشروعهم الذي يتلخَّص في تحويل النباتات إلى مصانعَ مُصغَّرةٍ رخيصة لإنتاج الأدوية التي تحوي على بروتينات صغيرة تُدعى cyclotides، والتي تعني الببتيدات الحَلَقيَّة "Cyclic peptides". فما هي هذه البروتينات؟ ولماذا اختيرت دون غيرها؟

كغيرها من البروتينات، تتألَّف الببتيدات الحَلَقيَّة من سلسلةٍ خطيّةٍ من الأحماض الأمينية (وهي أحجار الأساس في بناء البروتينات وتشكِّل عند ارتباطها مع بعضها بروابط ببتيدية ما يُعرف بـ ببتيد متعدّد ـ شكل1). لكن ما يُميزها عن معظم البروتينات الأخرى هو ارتباط نهايتي سلسلتها الببتيدية لتشكَّل حلقةً تدعمها روابط تساندية ثنائية الكبريت (الشكل أدناه).

إنَّ البنية المعقدة للأدوية الببتيدية تجعلها أكثر نوعيةً و ذات آثار جانبيةٍ أقلّ من الأدوية ذات البنية الجزيئية الصغيرة، لكنّ هذه السِمة ذاتها تجعلها صعبة الإعطاء والتخزين. فخلافاً للأدوية ذات الجزيئات الصغيرة، يتوجّب إعطاء الأدوية الببتيدية عن طريق الحقن حصراً، لأنّه في حال ابتلاعها عن طريق الفم فسيتمّ هضمها قبل أن تُمتصّ وتصل إلى هدفها شأنها في ذلك شأن أيّ بروتين آخر. لكنّ الأدوية الببتيدية تعدّ مقاومةٌ لفعل الإنزيمات الهاضمة بسبب بنيتها الخاصة والتي تُمكِّنها من الوصول إلى هدفها دون أن يطرأ عليها أيُّ تغيير.

وخلاصة القول أنّ هذا النوع من البروتينات يتفوّق على غيره ـ صيدلانياً ـ بسبب بنيته المتماسكة، وكونه أكثر انتقائيةً وفعاليّةٌ، كما يتوقّع أن يكون أكثر أماناً لأنَّه عندما سيتحلًل في نهاية المطاف سيعطي أحماضاً أمينية وهي النواتج الطبيعية لهضم البروتينات في الجسم.

لا تسأموا، فموضوعنا ليس كيميائياً أو صيدلانياً بحتاً! دعونا فقط نعرِّج تاريخياً على قصة اكتشاف هذه البروتينات قبل أن ننتقلَ للنظر إلى الموضوع من زاوية التقانة الحيوية والتي هي لبُّ حديثنا..

قد يكون من المفاجِئ أن تعلموا أنّ الببتيدات الحَلَقيَّة قد اكتُشفت لأوّل مرة في الستينات من القرن الماضي، عندما لاحظ أحد الأطباء العاملين في الصليب الأحمر في الكونغو أنَّ النساء يعمَدْن إلى تناول شايٍّ من الأعشاب المحلية من أجل تسريع الولادة، ليتبيَّن فيما بعد أنَّ المكوِّن الفعّال في هذا الشراب هو الببتيد Kalata B1.

لا غريب في الأمر حتّى الآن، إلّا إذا علمتم أنّ الببتيدات تتخرَّب بالحرارة، فكيف حافَظَ هذا الببتيد على فعاليته رغم الغلي؟ هذا ما توصّل إليه العلماء عام 1995 عندما اكتشفوا البنية الحلقية لهذا الببتيد. منذ ذلك الوقت اكتُشِفت المئات من هذه البروتينات في النباتات واستُخدم بعضُها في الهندسة الوراثية، ومنها الببتيد Kalata B1 ذاته والذي وُجِد أنّه يتمتَّع بخصائص قويَّة مضادة للحشرات يُمكن أن تقي النباتات من اليرقاتِ الضّارة دون الحاجة لاستخدام المبيدات الحشرية.

هل سيكتفي علماء الكيمياء الحيوية بما تُنتجه الطبيعة من الببتيدات الحَلَقيًّة؟

طالما أنَّ السرَّ يكمنُ في البنية الحلقية لهذه البروتينات، فلمَ لا نحوِّلُ البروتينات ذات الحموض الأمينية خطيَّة السلسة إلى بروتيناتٍ حلقية؟! هذا بالفعل ما قام به ديفيد كريك، وتمكّن من الحصول على بروتينٍ حلقيٍّ مُستَخرَجٍ من سمِّ حلزون مخروطي وجد أنّه يتمتّع بقدرةٍ على تسكين الألم تفوق قدرة الغابابنتين بـ 120 ضعف!

ونظراً لكون الاصطناع الكيميائي لهذا المركب يملك مخلّفاتٍ كيميائيّة وضرائبَ صحّية، فقد استعان كريك بخبرة زميله أنديرسون في تكنولوجيا التعديل الوراثي من أجل تخليق نباتاتٍ تنجز هذا العمل.

أسئلةٌ كثيرة تتقافز في أذهاننا الآن، يتمحور أوّلها حول إمكانية تخليق هذه البتيدات في الأجزاء القابلة للأكل أو للاستخدام في تحضير المشروبات من النباتات، فما مدى إمكانية تحقيق ذلك؟

استخدم العلماء بكتريا Agrobacterium tumefaciens لنقل المورّثة المسؤولة عن إنتاج البروتينات المرغوبة مع إضافة مُحضِّض (Promoter) إليها ينظِّم عمل المورثة بحيث يتفعّل التعبير عنها فقط في الأجزاء النباتية التي يُراد أن تُنتجَ فيها البروتينات كالبذور أو الدرنات أو أي جزءٍ آخر قابلٍ للأكل. والنتيجة؟ لن نكون بحاجةٍ إلى استخلاص هذه البروتينات وكلُّ ما علينا فعله هو تناول الأجزاء النباتية التي عُدِّلَت وراثياً. أمّا إن كنتم قلقون فيما يخصّ الآثار الجانبية للمركبات الأخرى في النبات فما عليكم إلّا غلي النبات لتثبيط عمل بقية المركبات، ومن دون الخشية من فقدان فعالية الببتيدات الحلقية، فهي كما علمتم منذ قليل؛ لا تتخرَّب بالحرارة.

أمّا السؤال الثاني -ولعلَّه الأكثر أهمية- هو؛ إن كنتُ أحصل على الجرعة المُحدَّدة من الدواء من الصيدلية بطلبها ببساطة من الصيدلي، فكيف لي أن أتحكَّم بجرعة الدواء النباتي هذا؟ درنتان من البطاطا.. أو ثلاثة أوراق من السبانخ... 20 غراماً من القمح؟!

يمثّل ضبطُ الجرعةِ التحديَ التقنيَّ الأبرزَ الذي يواجه الباحثين حالياً، ولذلك يعمل فريق البحث على اختيار النباتات التي تُنتج الأدويةَ بجرعات عاليةٍ، ومن ثُمَّ استنساخِ هذه النباتات في بيوت زجاجية لتحديد الظروف البيئية المثلى لنموِّها. تسمح معرفة هذه الظروف بتحديد جرعاتٍ دقيقة من النباتات المُنمَّاة، ويأمل الباحثون في تطوير وسيلةٍ رخيصة لاختبار كمية الدواء في أيِّ نباتٍ معدَّلٍ وراثياً نُميَ في الحقل.

لنأتي الآن لثالث الأسئلة التي تعصف بأذهاننا؛ ما مدى أمان هذه النباتات؟ هل ستكونُ على استعدادٍ لاستبدال جرعة دوائك التقليدي المُصنَّع كيميائياً بأخرى نباتية؟ لا سيَّما إذا علمت أنَّ أحد أهداف الباحثين في هذا المجال جعلُ هذه النباتات في متناول الجميع حول أنحاء العالم، وحتَّى سكانَ الأرياف النائية؟

يقول كريك في هذا الصدد؛ أنَّ الباحثين سيعملون على تخطي هذا العائق من خلال شرح وإثبات أنّ نباتاتِهم المعدَّلة هذه ستكون آمنةً للاستهلاك البشري. ويستشهد على ذلك بقوله: "على مدى 15 عاماً، تناول البشر ما لا يقلّ عن 3 مليار وجبةٍ تعتمد على نباتات مُعدَّلة وراثياً في 29 دولةً حول العالم، ولم يحدث أن وقع أي دليلٍ على تسبّبها بالضرر".

على الرَّغم من أنَّ العملَ على إنتاج الأدويةِ نباتياً مستمرٌ على قدمٍ وساق، إلّا أنّها لن توضعَ في متناول العامة قبل أن تحصلَ على تراخيصَ من الجهات الرقابية كإدارة الأغذية والأدوية الأمريكية. وريثما يتحقَّق ذلك، ما رأيك أن تفكِّرَ قليلاً.. إلى أيِّ مدىً تعتقد أنَّه بإمكانك الوثوق بالتقانة الحيوية ومواكبة استخدام جديد ما تأتي به؟ هل تمتلك هذه القابلية للتغيير؟ نترككم مع هذا السؤال متمنين لكم دوام الصحة، والشِّفاءَ إن كنتم مرضى.

المصادر:

هنا