البيولوجيا والتطوّر > منوعات بيولوجية
كيف يُحدّد البعوض مكان ضحيّته؟
ليست البعوضة حشرةً مزعجةً فحسب، فإضافةً إلى صوتِها البغيض وما يتبعُ لسعتَها من الإحساس بالألم، فهي تمتلك القدرة على نقل العديد من الأمراض كالملاريا والحُمَّى الصفراء وحمَّى الضنَك وفيروس غرب النيل وفيروس زيكا وغير ذلك من الأمراض الطفيلية والفيروسية المنتشرة حول العالم.
عندما نتحدّث عن الأمراض المنتقلة عن طريق البعوض، فإنّنا نعني بحديثنا أنثى البعوض لا الذكر، وذلك لأنَّ الأنثى فقط هي من تُهاجِم الكائناتِ الحيةَ من ذوات الدم الحار للحصول على وجبةٍ ـ يُقدّر وزنها بـ ثلاثة ميلي غرامات 3mg ـ غنيةٍ بالبروتين والحديد لتشكيل البيض، أما للحصول على الطاقة فهي تتناول ما تتناوله الذكور المُسالِمة؛ أي رحيقُ الأزهار أو أيّة عُصارةٍ أخرى ذاتُ مذاقٍ حلوٍ.
إنّ أجزاءَها الفمويةَ المميزةَ وحواسَها الفريدة تجعل ضحيَّتها "لقمةً سائغةً" أمامها، كما أنَّ الآليةَ التي تلسعُ بها لن تدعَ لك مجالاً لإنكار مدى مهارتِها في الحصول على وجبتِها بخفةٍ وبراعةٍ، للراغبين بمعرفة المزيد عن ذلك؛ إليكم مقالنا السابق المُرفَق بالفيديو التوضيحي هنا.
ورغم أنَّ دراساتٍ سابقةٍ قد توصَّلت إلى نتائجَ تتعلّقُ بسبب تفضيل البعوض بعضَ الأشخاصِ على بعض؛ كتفضيل الرياضيين على غير الرياضيين والنساءِ الحواملِ على غيرهن وأسبابٍ أخرى غير هذه يُمكنكم الاطلاع عليها بقراءة مقالنا السابق هنا لكن القليلَ نسبياً يُعرف عن كيفية اختيار أنثى البعوض لعوائلها، وقد طُرحت أسئلةٌ عديدةٌ بهذا الشأن، كان منها: ما هي الحواس التي تُوظِّفها البعوضة لهذا الغرض؟ وأيُّها يعمل أولّاً للسماح لها بتحديد هدفها المنشود؟
لا يكون داخل الحجرة التي اختُبِرَ البعوض بها أيُّ مُحفِّزٍ، باستثناء نقطةٍ سوداءَ واحدةٍ والتي شكَّلت بوجود غاز ثاني أكسيد الكربون CO2 (الذي يُؤلِّف نسبةً كبيرةً من هواء الزفير) العاملَ المرئي المُحفِّزَ الوحيدَ لسباق البعوض نحوها.
اتّضح في نهاية التجربة، أنَّ الإناثَ تستخدم عدّة حواسٍ لتحديد عائلٍ مناسبٍ من ذوات الدم الحار في مكان قريبٍ منها، ولن تكون قادرةً على اختيار ضحيَّتها حتى تشُمَّ رائحتَها، وبعد ذلك تبدأ الحواسُ الثانوية الأخرى كالرؤية بالمشاركة في البحث عن الضَحيِّة المقصودة. وعندما أَتبَعَ الباحثون تيارَ غاز CO2 ببخار الماء أو الحرارة، أصبحتِ الحشراتُ أكثرَ تركيزاً على الهدف.
إذاً فإناثُ البعوضِ لا تبدأ البحثَ البصريَّ عن الضحية إلا بعد أن تتأكدَ من وجودها في مكانٍ قريبٍ منها من خلال شمِّ رائحتها، بمعنىً آخرَ؛ من خلالِ استشعارِها وجودَ غاز CO2 وذلك حتى لا تُضِيعَ الوقتَ بالبحث عن أهدافٍ وهميةٍ بين الأعشاب والصخور! أمّا ما يزيد من فاعلية هذه الرائحة فهي درجةُ الحرارة التي تزيد تحفيز أنثى البعوض لتبدأ بعد ذلك بالبحث بصرياً عن الهدف. وهكذا تكون الحواس المُستخدمة للوصول إلى الهدف على التوالي هي: الشم- الإحساس الحراري- وأخيراً الرؤية.
ومن الجدير بالذكر أنَّ دراسةً سابقةً على البعوض الناقل للحمى الصفراء توصّلت إلى أنَّ سببَ توقه إلى الدم البشري يعود إلى اختلافٍ وراثي يجعله أكثرَ حساسيةً للدم البشري، فامتلاكُه مورثةَ تعقبٍ للرائحة يجعل قرونَ استشعاره حساسةً جداً لرائحة السولكاتون (مركبٌ دائمٌ موجودٌ في الدم البشري)، وهذه المورثة أكثرُ شيوعاً في البعوض المنزلي المُحبّ لدماء البشر منها في بعوض الغابات المحب للدماء غير البشرية. تجدون تفاصيل الدراسة في مقالنا السابق هنا.
هل سيساعد هذا البحث في القضاء على البعوض الناقل لأخطر الأوبئة؟ أو على الأقل هل من فائدة تطبيقية لما خَلُصَت إليه الدراسة؟
في ظلِّ البحث المستمر لتطويرِ وسائلَ جديدةً لردع أو قتل البعوض خاصةً في الأماكن التي يُمكن أن يُشكل فيه خطراً على البشر، يُمكن لهذا البحث أن يُشكِّلَ نقطة انطلاقٍ للوصول إلى آليةٍ جديدةٍ يمكن من خلالها ثني البعوض عن إيذاء الإنسان أو الحيوانات المدجنة، وذلك عن طريق التأثير المباشر على الحواس المتعددة التي يستخدمها للوصول إلى فرائسه، ويُمكن للدراسات المستقبلية اختبارَ استجابة البعوض للاختلاف في الروائحِ بما فيها تلك الروائحُ التي من شأنها أن تلعبَ دوراً في إبعاد البعوض.
المصادر:
البحث الأصلي: هنا