الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة
فلسفةُ الكُموميّة: إعادةُ إحياءٍ لنظريّةِ المعرفة
أشعلَ تفسيرُ (مدرسةِ كوبنهاغن) لسلوكِ الإلكترونِ حربًا فلسفيةً في مطلعِ القرنِ العشرين، وكان ألبرت أينشتاين مِن أبرزِ المعارضين لهذه المدرسة، وقد عبّر عن ذلك بمقولتِه الشهيرة: «إنّ اللهَ لا يلعبُ بالنرد». فكيف أوصَلت الفيزياءُ الكلاسيكيةُ الفلسفةَ إلى حافّةِ الجمود؟ وكيف أشعلت النظريةُ الكُموميّةُ النارَ في حطبِ الفلسفةِ التقليديّة؟ كلُّ هذا وأكثر سنتحدثُ عنه في مقالِنا التالي.
لَطالما كان العلمُ مرتبطًا بالفلسفة، مُشَكِّلَيْنِ وِحدةً معرفيةً متكاملة؛ فمن الصعبِ أنْ يصلَ أحدٌ إلى فَهْمِ مجالٍ منهما دونَ الآخر. وقد أدّى تراكمُ المعرفةِ المرتبطةِ بهذين الحقلينِ عبرَ سنينَ مِن البحثِ والتّجربِة؛ إلى نشأةِ بُعدٍ جديدٍ لنظريةِ المعرفة؛ يُمَكّنُنا من فَهْمِ جوهرِ العالمِ الذي نعيشُه.
فمنذُ عهدِ فلاسفةِ الطبيعةِ، والعلومُ تَنشَأُ وتتجدّدُ في أحضانِ الفلسفة، كما يبدو جليًّا في أعمالِ طاليس (624-546 ق.م) وغيرِه من فلاسفةِ اليونان، الذين كانوا مهتمّينَ بالبحثِ عن المصدرِ الأساسيّ وراءَ التغيُّراتِ التي تحدثُ في الكون. كذلكَ ارتبطَ تَطوُّرُ الفكرِ الفلسفيِّ بتطوُّرِ العلم؛ ففلسفةُ ديكارت تَدِينُ بالكثيرِ من مبادئِها لما وصلَ إليه العلمُ على يدِ جاليليو.
وإذا كان لزامًا علينا أن نسلِّطَ الضوءَ على الروابطِ بينَ الفلسفةِ والعلوم؛ فذلك لأننا نعاني مِن فجوةٍ نَتَجتْ في القرنِ العشرين؛ بسببِ تجاوُزِ العلومِ الأساسيّةِ -التي تتناولُ المكانَ والزمانَ والمادّة- حاجزَ الفَهْمِ المشترَكِ بين الإنسانِ والفلسفةِ الكلاسيكيّة؛ فأصابَ الجمودُ معظمَ تأمُّلاتِ الفلاسفةِ المعاصرين، في طريقِهم نحوَ تجديدِ الخطابِ الفلسفيِّ لنظريةِ المعرفة، تحديدًا مع بروزِ النظريّةِ الكُموميّة (أو الـQuantum) في الساحة؛ بوصفِها واحدةً من أهمِّ النظرياتِ الفيزيائيةِ في تفسيرِ الكون.
وبَدْءًا مِن خمسينيّاتِ القرنِ الماضي، أصبحت النظريةُ الكُموميّةُ الوسيلةَ الرياضيّةَ الأمثلَ للتعاملِ معَ الظواهرِ الطبيعيّة. إلّا إنّ استقرارَ مبادئِ الكُموميّةِ في صورةٍ رياضيةٍ جامدةٍ دونَ أيِّ أثرٍ حَدْسِيّ، مع غيابٍ كُلّيٍّ للوضوحِ من حولِنا، إضافةً إلى دورِ تلك المبادئِ في أخذِ العلمِ إلى مناطقَ أعمقَ مما يُمكِنُنا أنْ نَصِلَ إليه باستخدامِ حواسِّنا فقط؛ جَعلَ منها نظريةً تبدو كأنّها قادمةٌ من نظامٍ أعلى ممّا ندركُ فيهِ الأجسامَ الملموسةَ؛ فنستطيعَ التعبيرَ عنها بكلماتِنا.
كانت صورةُ الفيزياءِ حتى بدايةِ القرنِ العشرين؛ قائمةً على الحِسِّ المشترَكِ حولَ الحقيقةِ الموضوعيّةِ في وجودِ العالمِ الخارجيّ؛ فكلُّ شيءٍ في الكونِ قائمٌ على السببيّةِ والحتميّة، وقد عَدَّتْ تلك الحقيقةُ الكونَ آلةً عملاقةً ليس للإنسانِ أيُّ دورٍ فيها، وما هو إلا جزءٌ منها.
«كان العلمُ في الفيزياءِ التقليديةِ ينطلقُ من الاعتقادِ بإمكانيةِ توصيفِ العالمِ أو بعضِ أجزائِه -على الأقلّ- دونَ أن يكونَ لنا دخلٌ في ذلك. وهذا ممكنٌ فعلًا في حدودٍ عريضة؛ فمثلًا، نحن نعلمُ أنّ لندن موجودةٌ، سواءً رأيناها أم لا. وبالإمكانِ القولُ إنّ الفيزياءَ التقليديةَ هي بالضبطِ هذا التخيلُ الذي يتيحُ لنا أن نتكلمَ عن أجزاءٍ من العالم، دونَ أن يكونَ لنا دخلٌ فيها. هذا وإنّ النجاحَ الذي أَحرزه هذا الرأيُ قد أدّى إلى التسليمِ العامِّ بالتوصيفِ الموضوعيِّ للعالم، وأصبحت الموضوعيةُ هي المعيارَ الأولَ في تقييمِ أيِّ حصيلةٍ علميّة». [كتاب (فيزياءٌ وفلسفة، ثورةٌ في الفيزياءِ الحديثة) فيرنر هايزنبرغ، ترجمة د. أدهم السمان].
لكنّ هذه الصورةَ لم تدُم طويلًا؛ فقد وصلَ ماكس بلانك عامَ 1900م إلى جذورِ نظريةِ الكُمومية، وأكملَ شرودنغر وهايزنبيرغ وأينشتاين طريقَ تطويرِ وتوظيفِ هذه النظرية، فتحوّلَ الإنسانُ من مجرّدِ جزءٍ من آلةٍ عملاقةٍ إلى فاعلٍ نشطٍ في هذا الكون. ويعودُ الفضل في ذلك إلى مبدأِ (عدمِ اليقين)، الذي يُعَدُّ العمودَ الفَقريَّ لميكانيكا الكمّ، وينصُّ على عدمِ إمكانيّةِ قياسِ موقِع جُسيمٍ ما وكمّيةِ تحرُّكِه في آنٍ واحد، إلّا ضمنَ حدودٍ معينةٍ من الدقّة.
وبالطبع، فإنّ مبدأَ عدمِ اليقينِ هذا لن يتناسبَ مع الحسِّ المشترَكِ لدينا. ولِنفهمَ الصورةَ بشكلٍ أفضل؛ دعونا نسأل: إنْ تصوَّرْنا أنّ شيئًا ما يتحرّكُ دونَ أن يكونَ له موقعٌ معيّن، فأين سيتحركُ إذنْ؟ لا شكَّ بأنّ ذلكَ يُشعِرُنا بتناقضٍ يُقلِقُ عقولَنا، فكيف يمكنُ إذنْ أنْ نبرّرَ ذلك؟ إنّ التجارِبَ الكثيرةَ أكّدتْ صحّةَ مبدأِ عدمِ اليقين، الذي لا يكتملُ جوهرُ ميكانيكا الكمِّ من دونِه. وعدمُ قدرتنا على التفكير فيه يعودُ إلى اعتيادِنا على التفكيرِ في عالمٍ ضمنَ ثلاثةِ أبعادٍ فقط.
أما المبدأُ الثاني لهذهِ النظريةِ فيَنُصُّ على وجودِ وجهين للطبيعة؛ أحدُهما جُسيميٌّ والآخرُ مَوجيّ، والطبيعتان مُتمِّمتانِ لبعضهما؛ فلا يمكنُ لنا أنْ نشاهدَ وَجْهَي قطعةِ نقودٍ دُفعةً واحدة، وإذا رأينا أحدَ الوجهينِ بكاملِ صورتِه؛ فقدْنا الآخرَ بكاملِ صورتِه بالمقابل.
ومن خلالِ هذين المبدأين؛ تتّضحُ لنا صورةُ العالمِ الجديد، أو عالمِ ما بعدَ النظريةِ الكمومية؛ فالوجهُ الذي تَظهُر عليه الأشياءُ لنا هو اختيارُنا نحن، وينطبقُ هذا على اختيارِنا لظهورِ الطبيعةِ الموجيّةِ أو الجُسيميّة للأجسام، وكذلك اختيارِ ظهورِ الحركةِ أو الموقع. نحن نختارُ الشيءَ الذي نريدُ أنْ نشاهدَه، وما ينطبقُ على الحركةِ والموقعِ ينطبقُ كذلك على كلِّ ما هو متغيّرٌ في الطبيعة؛ فلا وجودَ لشيءٍ على حالةٍ مُحدَّدةٍ قبلَ عمليةِ المشاهدةِ أو الوعي، وكلُّ شيءٍ خارجٌ عن وعيِنا في هذه اللحظةِ لا يكونُ على حالةٍ مُحدَّدة، بل يكونُ مُعلَّقًا في كلِّ الاحتمالات.
وقد كانَ من المتوقَّع لنظريةٍ كهذه أنْ تنسِفَ فلسفةَ الفرْضياتِ التقليديّةِ للمَعْرفة، فاعتقادُ الفيلسوفِ ديفيد هيوم (1711-1776) بأنّ تصوُّرَنا الحَدْسيَّ للعالم هو نتيجةٌ مباشِرةٌ لإدراكِنا الحسّيِّ للواقع؛ تحطّمَ على أبوابِ النظريةِ الكمومية.
وممّا لا شكَّ فيه أنْ يحدثَ تصادمٌ بين مبادئِ الكموميةِ والحِسّ المشترَكِ لدينا؛ فمنذُ أن اكتُشِفت هذه النظرية، بدأَ صراعٌ طويلٌ لم ينتهِ حتى الآن؛ لأنّ مبدأَ عدمِ اليقينِ قد قضى على الصورةِ الحتميّةِ للكون. وتكمُنُ نقطةُ الانطلاقِ نحو فَهْمِنا الجديدِ لنظريةِ المعرفة؛ في تصالحِنا مع هذا التعارضِ لنتمكّنَ من إيجادِ إضافةٍ جوهريةٍ لنظريةِ المعرفة، هذه النظريةُ التي تهدِفُ إلى تفسيرِ كيفَ يمكنُ للوعيِ البشريِّ أنْ يعرفَ العالَم، على أن يؤخَذَ بعينِ الاعتبارِ أنّ أصلَ هذا الوعيِ يَكمُنُ في القوانينِ التي يخضعُ لها هذا العالم، حيثُ تذهبُ فلسفةُ المعرفةِ إلى ما وراءَ ذلك، وتغيِّرُ نظَرتَنا إلى العالَمِ ووعيَنا به.
أدّت النظريةُ الكموميةُ إلى اكتشافِ أنّ هذا العالمَ الذي ندركُه بحواسِّنا؛ ما هو إلا تبايُنٌ لقوانينِ تلك الحواسّ؛ فملامحُه يمكنُ استخلاصُها من المبادئِ الأساسيّةِ التي تحكمُ ماهيّةَ الواقع، لتشكّلَ إطارًا متينًا لنظريّةِ معرفةٍ ذاتِ حدودٍ مُحكَمة، فتظهرُ الأشكالُ المختلفةُ للوعي. وهذا ما يُفسِّرُ عودةَ بعضِ المبادئِ الفلسفيّةِ القديمةِ إلى الظهور، وما علينا سوى أنْ نضعَها بحيث تنطبقُ على نطاقٍ أكبر؛ وبهذا فإنّ المشكلاتِ الفلسفيةَ التي أثارتها قوانينُ الكموميةِ يمكنُ أنْ تختفيَ من تِلقاءِ نفسِها.
إنَّ إدراكَنا لما أحدثتْه النظريةُ الكموميةُ مِن تأثيرٍ على العلمِ والفلسفة؛ بحاجةٍ إلى أنْ يتوسّعَ أكثرَ في ماهيّةِ النظرية، وأنْ يدخلَ في علاقاتِها الرياضيّة، وهناك الكثيرُ من المراجعِ التي تمكّنُنا من التعمُّقِ في مبادئِ هذه النظرية.
إنَّ عقولَنا تلعبُ دورًا رئيسيًّا في تشكيلِ وترتيبِ الطبيعةِ التي نُدرِكُها. ومع أنّ ميكانيكا الكمِّ لا تنكِرُ مبادئَ السببيّةِ والحتميّةِ بشكلٍ مطلق، إلا أنّها ترى أنّ لهُما حدودًا في العالم الكُموميِّ الجديد. كما أنّها لا تقدّمُ حلًّا رسميًّا لمسألةِ (العقلِ والجسد)، لكنها تُعطينا علاقةَ الوعيِ بالواقعِ إلى حدٍّ ما؛ بحيث نُعطي للعالمِ الخارجيِّ عددًا غيرَ نهائيٍّ من الأشكالِ في إطارِ وعيِنا؛ ومِن ثَمَّ فإنه يمكنُ لنظريّةِ المعرفةِ أنْ تَنْضُجَ من جديدٍ وتتطوَّر؛ اعتمادًا على معرفةِ مكوِّناتِ العالَمِ الأساسيّة، وقُدرةِ وَعْينا على تشكيلِ تصوُّرٍ لا نهائيٍّ لهذا العالم.
المراجع:
1- كتاب نظرية الأوتار الفائقة: نظرية لكل شيء، تأليف بول ديفيس وجوليان براون.
2- كتاب فلسفة الكمومية، تأليف رولان أومنيس.
3- كتاب مقدمة في ميكانيكا الكمومية، تأليف بي.تي. ماثيوز.
4- كتاب ميكانيكا الكمومية بين الفلسفة والعلم، تأليف يوسف البناي.
يمكنكم الاطّلاعُ أيضًا على سلسلة مقالات (الباحثون السوريون) في قسم الفيزياء حول النظرية الكمومية:
أو مشاهدة الفيديو التالي: هنا