الطبيعة والعلوم البيئية > علم البيئة

التغير المناخي وزيادة طول اليوم - القطعة المفقودة في لغز مونك!

استمع على ساوندكلاود 🎧

تكمن أهمّية تتبّع تغيّرات منسوبِ سطح البحر خلال السنواتِ السابقة في الوصول إلى تقديراتٍ أكثرَ دقةً لارتفاع سطح البحر المستقبلي بما يمكننا من التحضّر بشكلٍ أفضلَ لعواقبِ هذا الارتفاع والتي قد تتعدّى الفيضانات وتآكل السواحل لتصل إلى التأثير وبشكل مباشر على دورانِ الأرض حولَ محورها.

أثار العالمُ "مونك" موضوع الارتباط بين تغيّر منسوب سطح البحر وبين سرعة دوران الأرض، ونشر ما توصّل اليه في ورقة بحثيةٍ عام 2002 أظهرت التناقض الواضح بين الأثر المتوقع لارتفاع منسوب سطح البحر خلالَ القرن العشرين على دوران الأرض وما تم تسجيله فعلياً. واستمرّ هذا التناقض الذي عُرف بلغز مونك Munk’s Enigma لأكثر من عقدٍ من الزمن حتى تمكّن فريقٌ بحثي من جامعة ألبِرتا الكندية من حلّ هذا اللغز المحيّر عبر استعانته بالتقديراتِ الأحدثِ لذوبانِ الأنهار الجليدية في القرن العشرين، وعبر فهم العلاقة بين تغيّر منسوبِ سطح البحر وديناميكية الحركة ضمن نواة كوكب الأرض.

فقد ازدادت سرعةُ دورانِ الأرض "تحت القشرة" حول محورها بقدارٍ ضئيلٍ خلال الـ 3000 سنة الماضية، بينما تباطأت سرعة دوران القشرة الأرضية التي نقف عليها، وكنتيجةٍ لذلك ازدادَ طولُ اليوم الأرضي، وسيستمر بالزيادة ليصبح اليوم بعد قرن من الآن أكبر ب 1.7 ميلي ثانية، ومع أنه لا يبدو أثراً كبيراً لكنّ الزيادة ستستمر وتتراكم مع الزمن، فما العلاقة بين طول اليوم الأرضي وبين تغيّر مستوى سطح البحر؟


أثر ارتفاع مستوى سطح البحر:

يعود سببُ ارتفاع منسوب سطح البحر بشكل رئيسٍ إلى كميات المياه الإضافية التي تصبّ في المحيطات بنتيجة ذوبان الأغطية الجليدية وتمدد مياه المحيطات مع تزايد حرارتها، وكلا المسببين يتزايد مع الاحترار العالمي المستمر. لارتفاع مستوى سطح البحر آثارٌ مدمرةٌ على الأرض وفي مقدمتها الفيضانات والحتّ، لكن هذا الارتفاع يمتلكُ أثراً إضافيّاً يتمثل بتغيير طريقة دوران الأرض حول محورها، فالمياه الذائبة من الصفائح والأنهار الجليدية عند القطبين تُعيدُ توزيع الكتلة في القشرة الأرضية وتَنقلُ جُزئاً منها من خطوط العرض العليا "المناطقِ القريبةِ من القطبين" نحوَ خط الاستواء، مما يبطئ من سرعةِ دورانِ الأرض بشكلٍ يشبه تحريك المتزلّج أو الرّاقص ليديه خارج محيط جسمه عندما يرغب بإبطاء حركته، يضافُ لذلك أن ذوبان الجليد لا يحدث بنفس الدرجة في جميع مناطق الأرض مما يعني حدوثَ ميلانٍ طفيفٍ في محور دوران الأرض.

ونظرياً، لو قارنّا بين التغيرات الفعلية الحاصلة في دوران الأرض والتأثيرات المتوقعة بنتيجة ذوبان الأنهار الجليدية خلال فترة زمنية معينة فيجب أن نَحصل على حساباتٍ مترابطة، وهذا ما فَشل مونك في الحصول عليه.

لغز مونك Munk’s Enigma:

أراد مونك أن يحدد أثر التغيرات الناجمة عن ارتفاعِ منسوبِ سطح البحر، فقام بتحليل نتائج الرصد المدونة في السجلات التاريخية البابلية والصينية والعربية واليونانية والتي تشير إلى تباطؤِ معدّلِ دوران الأرض، إضافةً إلى بيانات القرن العشرين المتوفّرة والتي تشير إلى تباطؤ معدل دوران الأرض وتغيّر محور دورانها بالقيمة والاتجاه.

وأدخل مونك هذه النتائج ضمن نموذجٍ يبين تأثير العصر الجليدي على دوران الأرض، والذي يعبر عن قدرة كمياتٍ هائلة من الأنهار الجليدية الذائبة في نهاية العصر الجليدي الأخير على إحداث تغيرات مستمرة في سطح الأرض ودورانها على مدى مئات وآلاف السنين التالية لوقوعها، بفضلِ لُزُوجةِ باطنِ الأرض التي تجعل من صخورها تتدفق وتعيد التشكل خلال فترةٍ زمنيةٍ طويلة.

فسّر النموذج المصحح لتأثير العصر الجليدي كلّ التغيرات المرصودة في دورانِ الأرض، دون أن يَترك مجالاً لأيّة تأثيراتٍ سيُحدثها ارتفاع مستوى سطح البحر في القرن العشرين والمقدر بحوالي (1.5-2 مم/سنة)، والتي لو أُخذت بالحسبان، لكان التأثير أكبرَ بكثيرٍ من التأثيرِ المرصود فعليّاً. بمعنى آخر فإن نتائجَ النموذجِ تقول أن ارتفاع منسوب سطح البحر لم يؤثر على دورانِ الأرض حول محورها وهذا يُخالف المعلومات النظرية والفرضية الي وضعها مونك.

الحل المقترح للغز:

حصر مونك الحلولَ الممكنة لِلُغزِهِ في ثلاثِ فرضياتٍ؛ قد تكونُ تقديراتُ ارتفاعِ منسوبِ سطح البحر في القرن العشرين أكبرَ من الواقع، كذلك الأمر بالنسبة لتقديرات التخزين الحراري في المحيطات، أو ربما هناك خطأ فادح في تفسير السجلات القديمة.

وفعلاً هذا ما وجدته الدراسة الحديثة التي نشرت في مجلة Science Advances، فلقد تمكن الفريق الباحث من حلّ اللغز عبر تفسير بعض العيوب الرئيسية في حسابات مونك:

فتقديراتُ ارتفاعِ منسوب سطح البحر في القرن العشرين والتي استخدمها مونك كانت كبيرةً جداً، لأن التقديرات الحديثة الأكثر دقة تشير إلى تزايدٍ بمعدَّل 1 إلى 1.5 مم/سنة فقط (وليس 1.5-2 مم/سنة)، كما أنّ النموذج الذي استخدمه مونك لتصحيحِ تأثير العصر الجليدي لم يكن دقيقاً كفاية، حيثُ أنه أخطأ من ناحيةِ البنيةِ الداخلية للأرض ولم يعكس لزوجتها بدقة كافية، ولذلكَ وضع الباحثون نموذجاً جديداً لتقدير اللزوجة بطريقةٍ أكثرَ دقة.

وبرغم دقةِ النموذج الجديد للزوجة البنية الداخلية للأرض، والتقديراتِ الدقيقة لارتفاع منسوب سطح البحر، وإضافةِ تأثير جاذبية القمر التي تبطئ دوران الأرض بشكل يشبه المكابح اليدوية للسيارة، إلا أنّ مجموع التأثيرات لم يكفِ لتفسير التباطؤ المرصود في دوران الأرض، مما دعا الباحثين لافتراضِ قطعةٍ مفقودةٍ لحلّ اللغز بشكل كامل، فما هي هذه القطعة الجوهرية؟

القطعة المفقودة في الحل:

قد تكون مساهمة نواة الأرض في إبطاءِ سرعةِ دورانها هي القطعةَ المفقودةَ التي يبحث عنها العلماء، وتتمثّلُ بطريقةِ الحركة في باطن الأرض وهي تؤثر مباشرةً على دورانها، وهو العامل الذي فشل مونك بإدخاله في الحسبان.

فالأرضُ مؤلفة من نواةٍ بمحيطٍ سائلٍ مغلَّفٍ بوشاحٍ وقشرةٍ أرضيةٍ صلبة، وحدوث حركة في إحدى الطبقتين يؤثر حتماً على حركة الطبقة الأخرى، بشكل يشبه ركض فأرٍ باتجاه محدد على عجلة، مسبباً دورانها باتجاه معاكس. ولقد تأكد حدوث تغيرات في الحقل المغنطيسي الأرضي تشير إلى تزايد ضئيل في سرعةِ دورانِ نواة الأرض خلال السنوات الـ 3000 الماضية، قابلها تباطؤ في سرعة دوران القشرة الأرضية، لتكون المحصلة هي تباطؤ دوران الأرض خلال الفترة نفسها.

وأدت إضافة تأثير الاقتران بين النواة والقشرة الأرضية ضمن الحسابات إلى إنتاج بياناتٍ مترابطةٍ وملائمةٍ للسجلات المرصودة، بما في ذلك تأثير ارتفاع مستوى سطح البحر في القرن العشرين.

خاتمة:

بالاعتماد على العمل الذي قام به الباحثون للتوفيق ما بين المتناقضات التي وُجدت في لغز مونك، فإنهم يَثِقون أكثرَ من ذي قبل بتنبؤاتهم لمستوى سطح البحر في نهاية القرن الحادي والعشرين، مما سيمكّن مدناً ساحليّةً عديدةً من الاستعداد بالشكل الأمثل للتكيف مع التغيّرات المناخية، وحماية البنية التحتية لها والتي تكلف ملياراتِ الدولارات. ويضاف إلى أهمّية الدراسة كونُها حافزاً لمتابعة البحث في التفاصيل الدقيقة لكوكبنا مع الاستمرار بمراقبة الصورة الكبيرة والترابط والانسجام بين البنى والأنظمة التي تحكم بيئتنا.

المصادر:

هنا

هنا

هنا