التعليم واللغات > اللغويات
رقية حسن .. أختٌ وأمٌّ وعالمةٌ متفانية
يصادفُ الثامنُ من آذار من كلّ عامٍ يومَ المرأةِ العالميِّ، وأيُّ احتفالٍ سيكونُ أفضلَ من الاحتفالِ بالنساءِ العالماتِ اللواتي قدّمنَ خبرتَهنَّ لإثراء العلوم الإنسانيّة بمختلف فئاتِها؟! نحنُ بدورنا في فريق اللغويات اخترنا لكم الحديثَ عن رقية حسن، امرأةٌ أثبتت وجودَها في عالم اللغويات وتركت بصمةً لا تُمحى في هذه الحياة، لتكون مثالاَ تحتذي به كلُّ امرأةٍ طموحة. فلنتعرّف عليها معاً في هذا المقال.
عالمةٌ رفيعةُ المستوى، ذاتُ مساهمةٍ أساسيةٍ في مجالي اللسانيات البنيويةِ الوظيفيةِ وتحليلِ الخطاب. تابعت رقية حسن ووسّعت نموذجَ السياقِ اللغويِّ الذي وضعَه زوجُها اللغويُّ مايكل هاليداي في ستيناتِ القرنِ الماضي، حيث ارتأى فيه وجوبَ اعتبارِ السياقِ اللغويِّ كـ "بنيةٍ سيميائيةٍ " (كبنية ذات معنى) تمتلكُ ثلاثة معالمَ أساسيةً تتمثلُ بالمجالِ والمغزى والصيغة.
انتقدت رقية التطبيقَ النموذجيَّ الذي اتبعه هاليداي في المصطلحاتِ "المجال" و "المغزى" و"الصيغة" وكأنّ هذه المصطلحاتِ الثلاثَ تحملُ معانٍ ومكاناً بديهياً في النظريةِ اللغوية. ناقشت رقية فكرَ تطبيقِ شبكةِ هذا النظامِ كآليةٍ للحصولِ على وصفٍ منظمٍ لما هو منتظمٌ ومطّردٌ في مختلفِ السياقاتِ الاجتماعية. وطوّرَ الزوجان نظريتهما معاً حتى أصبحت على ما هي عليه اليوم.
" يرى هاليداي وحسن اللغةَ كأداةٍ ذهنيةٍ مبنيةٍ من نظامٍ معقدٍ من الخياراتِ المترابطة. اللغةُ، كنظامٍ من الخياراتِ التي تُتخذُ لنحددَ ما المعنى، تحملُ معها إدراكَ مجتمعٍ ما لحضارتِه وتاريخِه. وقد استطاعت حسن شرحَ تشابكِ السياقِ الحضاريِّ مع الأساليبِ النحويةِ بدقةٍ لم يجاريها فيها أيُّ عالمٍ آخر.
أدت أعمالُ حسن إلى أبحاثٍ تجريبيةٍ في التباينِ الدلاليِّ والذي يدرسُ الأوزانَ المختلفةَ التي تعطيها المجموعاتُ في مجتمعاتٍ لغويةٍ معينةٍ للقيمِ الحضارية. انتهت حسن إلى أنّ الطبقاتِ الاجتماعيةَ المختلفةَ تمتلكُ "أساليبَ معنى" مختلفة وذلك في أنّ كلَّ طبقةٍ اجتماعيةٍ تُشكلُ أسئلتَها وأجوبتَها وطلباتِها وشروحاتِها وفقاً لافتراضاتِها المختلفةِ عن العالم.
وُلدت رقية حسن في براتابجاره في الهندِ البريطانيةِ لوالدِها القاضي سيد بيدار حسن وزوجتِه كانيز فيزا. وبعد ضياعِ سجلاتِ ميلادِها الحكومية، أعادت والدتُها وعمتُها تسجيلَ ولادتِها في الثالثِ من تموز من عام 1931، أي قبل تاريخِ ميلادِها الحقيقي بقليل وذلك لتستطيع الالتحاقَ بالمدرسة.
تطورت مهاراتُ رقية في التحليلِ اللغويِّ وحبِّها للأدبِ في سنٍّ مبكرةٍ وذلك بمساعدةِ أخيها زاورا الذي كان يدرسُ الأدبَ الانكليزيَّ آنذاك. وقد ساعدَ دعمُ عائلتِها لها واجتهادِها في تمكنِها من تجاوزِ السقفِ الزجاجيِّ الذي كان يُحتجزُ تحته النساءُ الأكاديمياتُ في ذلك الوقت. بعد انتقالِ عائلتِها للسكنِ في باكستان، تخرجت رقية في عام 1953 من جامعةِ الله أباد باختصاصِ الأدبِ الانكليزي والتعليمِ والتاريخ، كما حصلت على ميداليةٍ ذهبيةٍ نظراً لإنجازاتِها في اللغة الانكليزية.
أتمت رقية حسن بعد ذلك درجةَ الماجستير في فنونِ الأدبِ الانكليزيِّ في الجامعةٍ الحكوميةٍ في لاهور وتم تعيينُها لتُحاضرَ في قسمِ اللغةِ والأدبِ الإنكليزي في كليةِ الملكةِ ماري في لاهور. ساعدت حسن على امتدادِ أيامِ دراستِها وعملِها في تنشئةِ أختِها الصغرى زكية ساروار من خلالِ تشجيعِها لتكون ناجحةً مثلها.
سافرت حسن إلى إسكتلندا في عام 1950 بعد حصولِها على منحةٍ دراسيةٍ من القنصليةِ البريطانية. تابعت رقية دراستَها للحصولِ على درجةِ الدكتوراه بعد حصولِها على شهادةِ الدبلومِ في اللغوياتِ التطبيقية من جامعةِ إيدنبرغ. عملت حسن في ستينات القرنِ الماضي في مركزِ الأبحاثِ الإجتماعيةِ اللغويةِ مع باسل بيرنستين على قضايا تتعلقُ بالعلاقةِ بين اللغةِ وتوزعِ أشكالِ الوعي. أدى هذا البحثُ إلى تطويرِ عملِها اللاحق عن التباينِ الدلاليِّ كما قدّمَ الدافعَ والبياناتِ اللازمةِ التي تهمُّ دراساتِها السابقةِ عن نسيجِ وبنيةِ النص.
كما التقت حسن في اسكتلندا بمايكل هاليداي الذي اشتهرَ آنذاك بنموذجِه اللغويِّ البنائيِّ الوظيفيِّ للغة. حيث ركزَ على النهجِ الإجتماعي والوظيفي في فهمِ الكيفيةِ التي تترتب فيها اللغةُ بشكلٍ منهجيٍّ في السياقاتِ المختلفة.
تزوج الاثنان في كاليفورنيا من عام 1967 وأنجبا طفلَهما نيل الذي ظهرَ تحت اسم "نيغل" في دراسةِ هاليداي النموذجيةِ للمنطقِ في تطورِ لغةِ الأطفال " تعلّمُ كيف نعني" (1965). في عام 1967 انتقلت العائلةُ للسكنِ في سيدني، حيث عملت حسن كمحاضرٍ ذات مقامٍ عالٍ في علم اللغويات في جامعة ماكواري أصبح هاليداي مؤسس رئاسةَ قسمِ اللغويات في جامعةِ سيدني حيث طور الإثنان معاً مجالَ اللغويات البنيوية الوظيفية إلى ما هو عليه اليوم.
ورغمَ جدولِ أعمالِها المزدحم، كانت حسن أماً متفانيةً في أداءِ واجبِها. رغبت حسن في أن يُصبحَ ابنُها نيل قاضياً مثل جدِّه بعد أن حصلَ على مرتبةِ الشرفِ الأولى في دراسةِ القانون من جامعة سيدني، لكنها دعمت قرارَه في أن يكونَ سائقَ قطاراتٍ بدلاً من قاضٍ. في عام 1994 تقاعدت حسن لتُصبح بذلك استاذةً جامعيةً ذات كرسيٍّ في جامعة ماكواري. وكأيِّ أكاديميٍّ متقاعدٍ، رأت حسن أنها "أخيراً حصلت على وقتٍ للتفكير". وخلال فترة تقاعدهما، تابع كلٌ من حسن وهاليداي نشرَ المؤلفاتِ وحضورَ المؤتمراتِ والزياراتِ الفخرية.
لم يؤثر التقاعدُ في اهتمامِ حسن بالسياسة. مدفوعةً بانتقادِها الدائمِ لنفاقِ الرأسماليةِ وحزنِها الشديدِ لتسويقِ الجامعاتِ، عارضت حسن أيَّ شكلٍ من أشكالِ الظلم. عبرت حسن عن خيبةِ أملِها بالنشاطاتِ المعاصرةِ للنشطاءِ الذين نصّبوا أنفسَهم مدافعينَ عن حقوقِ الشيعةِ رغم انتمائِها لعائلةِ سيد الشيعية قائلةً: "إنه لمنَ المحزنِ و المؤسفِ رؤيةَ من عانى من الاضطهادِ على مرِّ التاريخ يتحولُ إلى مُضطهِد"
تلقت حسن خبرَ تشخيصِ سعالِها الدائمِ كسرطانٍ متطورٍ للرئةِ بطريقةٍ فلسفيةٍ حيث كتبت: " أنا لا أشعرُ ذاتياً بأي تحسنٍ أو تراجع لكنني أشعرُ بخيبةِ الأمل فأنا في 84 من عمري كما تُظهر شهادةُ ميلادي لذلك لا يستطيعُ أحدٌ القولَ بأن مرضي جاء قبل أوانه". توفيت حسن فجأةً في 24 من حزيران عام 2015 رغمَ ظهورِ استجابةٍ جيدة للعلاج.
تركت حسن وراءها إرثاً فكرياً عظيماً تضمنته سبعُ مجلداتٍ لأعمالِها الكاملةِ في طريقِها للنشر:
اللغة، المجتمع، والوعي (2005)
التباينُ الدلالي: المعنى في المجتمعِ وفي علمِ اللسانياتِ الاجتماعي (2009)
اللغةُ والتعليم: التعلمُ والتعليمُ في المجتمع (2011)
السياقُ في النظامِ وعمليةِ اللغةِ (في طور النشر)
وصفُ اللغة: الشكلُ والوظيفة (في طور النشر)
الوحدةُ في الخطاب: النسيجُ والبنية (في طور النشر)
الفنُّ اللفظيُّ: وجهةُ نظرٍ اجتماعيةٍ دلالية (في طور النشر)
يبقى أن نقول، لطالما كان بمقدور المرأةِ أن تسطعَ كنجمٍ في سماء العلم إذا ما توافرت لها شروطُ الإبداعِ من تشجيعٍ وثقةٍ ودعمٍ من محيطِها.
تحيةٌ لكلٍّ امرأةٍ، ابنة وأختٍ وأمٍّ وزوجةٍ في عيدِها، وكل عام وأنتنّ بخير.
المصدر: