التاريخ وعلم الآثار > التاريخ
هبوط الآلهة إلى العالم السفلي... 1- طبيعة العالم السفلي وصفاته الجوهرية
لم يُلهب خيالَ الإنسان شيءٌ كما ألهبته فكرةُ الموت وزيارة عالمه السفلي، فإذا راودتك هذه الأفكار يوماً فإنّ هناك بعض النصائح والإرشادات الواجب علينا أن نضعها أمامك، فهذه النصائح لا تقدر بثمن ...
لا تضع عليك ثياباً نظيفة، وإلا خفَّ إليك الأموات.
ولا تُصمخ نفسك بالعطور الطيبة، كي لا تجذبهم الرائحة فيتجمعوا حولك.
ولا ترمِ رمحاً عندَ تجوالك في العالم الأسفل، لئلا يتكأكأ عليك مَن أصابهم رمحك.
ولا تحمل بيدك هراوة، كي لا تهيمَ حولك الأشباح.
ولا تضع في قدميك صندلاً.
وفي العالم الأسفلِ لا تصرخ ولا تبكِ.
لاتقبّل زوجتك المحبوبة، ولا تقبّل ابنك الحبيب.
لا تضربْ ابنَك الذي تكره، كي لا يمسك بك صراخُ العالم الأسفل...
إذا اتبعت هذه النصائح جيداً يمكنك الآن بدءَ زيارتك، وعلينا إخبارك أنّك لستَ وحدك من تشوّقَ لرؤية العالم السفلي؛ فقد شاركك بذلك العديدُ من الآلهة، فما شكل هذا العالم؟ وما هي أحوال سكانه؟ وكيف يمكننا الوصول إليه؟
تصدت أساطيرُ العالم السفلي لهذه الأسئلة المحيرة، لنتعرف على أجوبتها ضمن مقالنا التالي.
اعتبرَ الإنسانُ في الشرقِ الأدنى عالمَ الموتى عالماً سفلياً يقبعُ في أعماق الأرض. أطلق عليه السومريون اسمَ (كور)؛ وكلمة كور تعني الجبل، كما أطلقوا عليه اسمَ (كيجال) أي الأسفل العظيم. أما البابليون فقد أطلقوا عليه اسمَ (أريصتاتاري) أي الأرض التي لا عودة منها.
للعالم السفلي بوابةٌ رئيسيةٌ تصوَّرَها القدماءُ في غرب بلادهم بين جبلين، لأنهم اعتقدوا أن أوتو (إله الشمس) ينزلُ يومياً إلى العالم السفلي عند الغروبِ فلمّا كان ينزلُ من جهة الغرب كان لابدّ أن تكون بوابةُ هذا العالم في الغرب وتحديداً عند جبل (كور). إلا أنّ هذه البوابةَ لم تكن البوابةَ الوحيدةَ التي تُفضي إلى العالم السفلي، بل إنّ جميعَ القبورِ هي بوابات ثانوية لهذا العالم، ما إن يدفن الموتى تمضي أرواحُهم جميعاً دون تمييزٍ، فيَمضي إليه الصالحُ والطالح، والغني والفقير، والعبد والأمير. إلا أنّ كلَ إنسان يحتفظُ بالمكانة التي كانت له في الحياة الأولى.
الشكل (1): ختمٌ إسطوانيٌ يُظهِر الإلهَ أوتو عندَ بوابة أرض اللاعودة.
تبدأُ الرحلةُ إلى العالم السفلي من أعماق الأرض حتى يصلَ الزائرُ الجديدُ إلى نهر (هابور) وهو نهرُ العالمِ الأسفل ويساعدُ الزائرَ في العبورِ ملّاحُ النهر المسمى بـ (هامو طابال)، يقوم هذا الملّاحُ -وهو مخلوقٌ مخيفٌ ذو أربعةِ رؤوسٍ كرأس الطير- بنقلِ الزوار في قاربِه الخاص إلى الطرف الآخر حيث يصل إلى بوابات مدينة أرض اللاعودة.
عالمُ اللاعودة عالمٌ حصينٌ يقعُ خلفَ سبعةِ جدران عاليةٍ وسبعِ بواباتٍ حصينةٍ عليها حراسٌ غلاظٌ شدادٌ ما أن يقتربَ الزائرُ من البوابة الأولى حتى يعلنَ البوابُ اسمَه لتسمعَه سيدةُ العالم السفلي، ثم يُقادَ عبرَ البوابات السبعة، وعند كلّ بوابةٍ يتخلى عن شيءٍ من ملبسِه وزينتِه وفقَ قوانينَ صيغت بعنايةٍ واكتمال خصيصاً لهذا العالم، إلى أن يَمثُلَ عارياً أمام سيدته وكبارِ آلهة العالم الأسفل السبعِ لتقريرِ مصيرِه ومكانه في عالم الأموات.
إن السيدةَ المُطلَقَة لهذا العالم المرعب هي الآلهة (اريشكيجال)؛ تحكمُ عالمَها السفلي من قصرِها الخاصِ وهو قصرٌ بنيٌ من اللازَورد يسمى بـ (إيكال كينا) ومعناه قصرُ العدالة. المكانُ في الأسفل مظلمٌ دامسٌ تتزاحمُ فيه الشياطينُ كريهةُ المنظر وأرواح الموتى حيث الترابُ طعامُهم والماءُ العكرُ شرابُهم. يلقى بعضُ الأموات في هذا المسكنِ الأبدي معاملةً أحسن من غيرهم ويكون ذلك انعكاساً لبعضِ أفعالهم أو مكانتهم في العالم العلوي، كما أن الحالةَ الجيدةَ لأموات العالم السفلي تتناسبُ طرداً مع زيادةِ حجم ذريته في الدنيا. ومن لحظةِ دخول الميت إلى العالم السفلي لن يعودَ باستطاعته مغادرته أبداً فهي أرض اللاعودة بكل ما للكلمة من معنى.
تحدثت أساطيرُ كثيرةٌ عن العالم السفلي، ولم تتحدثْ عن زياراتِ البشر فقط بل حدثتنا عن هبوطِ العديد من الآلهة أيضاً، فمنهم مَن تمّ نفيُه إلى ذاك العالم لمخالفة قوانين العالم العلوي وآلهته كالإله إنليل، ومنهم مَن كان العالمُ السفليُ مسكنَه كآلهة الموت والأوبئة كالإله إيرا، ومنهم مَن يقضي بعض وقته هناك ومن ثم يعود للعالم العلوي كالإله دوموزي، ومنهم مَن هبطَ بملءِ إرادته كالآلهة إنانا. إلا أنّ الباحثين أجمعوا أن أساطيرَ العالم السفلي والتي تتحدث عن هبوط الإله الميت لم تكن مكرسة أساساً لوصف العالم السفلي، بل لشرح الفكرة الأساسية في عقيدة الخصب والمتعلقة بموت الإله وبعثه من جديد.
فقد أثارَ تفكيرُ الإنسان دوماً التغييرَ الدوريَ الذي يطرأ على الطبيعة. فمِن فصلٍ باردٍ وماطرٍ إلى آخرَ أخضرَ معتدلٍ فثالثٍ حارٍ وجافٍ فرابعٍ أصفرَ ذابل. ولم يكن الفكرُ الأسطوريُ ليتوصلَ إلّا لتفسيرٍ يربطُ ذلك كلّه بتحركات معينة للآلهة المعنية. فإذا كانت قوةُ الإخصاب الكونيةُ مسؤولةً بشكل رئيسي عن الإنبات ورعاية الحياة الزراعية. فما الذي يحدو بها للتخلي عن مهامِها هذه وترك الطبيعة لقوى الجفاف؟ وأيُّ أمرٍ أعظم من مغادرة هذا العالم كلِه يحدوها للنزولِ عن عرشها، وتركِ مهامها والتخلي عن شعبها؟ لقد غابت قوةُ الإخصاب عن هذا العالمِ كلياً إلى عالمٍ آخرَ، ولكنها جاهدت من أجل الرجوعِ مرة أخرى، وعمليةُ الغياب والعودة هذه هي النموذجُ للمسارِ الدوري الذي دخلت فيه حياة الطبيعة.
إن الجفافَ ضروريٌ للحياة الزراعية كما هي الرطوبة، وحرارةُ الصيف ضروريةٌ كما هي برودةُ الشتاء. فالمطر يروي البذرةَ والربيعُ يجعلها نبتةً خضراء، أما الصيفُ فيساعد على نضوجها. لذا فالموتُ هو الوجهُ الآخرُ للحياة وهو رَغمَ الفاجعة والألم لا غنى عنه. وموتُ الطبيعة استعدادٌ لانبعاثها، وتجددها لن يحصلَ إلا بموت إلهٍ وتضحيته بنفسه من أجل استمرار حياة الإنسان. ولمّا كانت الحياةُ على هذه الأرض هي أفضلُ حياة ممكنة، ولما كانت الدار الآخرة هي دارُ الشقاء والأحزان، فإنّ عمرَ الإنسان على هذه الأرضِ هو نوعٌ من الخلاص يحمله الإله الميت لبني البشر وليس موتُه وآلامُه إلا ضريبةً يدفعها عن الإنسان ونوعاً من الفداء السامي الذي يقدمه لعباده. فإله الخصبِ الميت هو إلهٌ فادٍ وهو إلهٌ مخلصٌ دفعَ حياته ثمناً لحياة الإنسان.
سننهي حديثنا عن العالم السفلي هنا، وفي مقالاتنا التالية سنتحدث عن الأساطير الخاصة بهبوط الآلهة التي قامت بزيارة العالم السفلي وعن الأحداث التي نتجت جراءَ هبوطهم هذا.
المصادر:
1- السواح، فراس، مغامرة العقل الأولى دراسة في الأسطورة-سورية وبلاد الرافدين، الطبعة الحادية عشر، دمشق، دار علاء الدين، 1996.
2- دالي، ستيفاني، أساطير من بلاد مابين النهرين، ترجمة: نجوى نصر، الطبعة الثانية، بيسان للنشر والتوزيع، 2011.