العمارة والتشييد > التصميم العمراني وتخطيط المدن
المدن العائمة، ملاذنا الأخير بعد ذوبان الثلج القطبي!
لعل أول ما يتبادر لأذهاننا عندما نسمع بمصطلح المدن العائمة، هو مدينة البندقية المبنية على الماء، ولكنها من حيث الواقع، ليست مدينة طافية وإنما مبنية على أعمدة وتدية مغروزة بقاع البحر، فالمدن العائمة هي التي تطفو فعلاً على سطح الماء، ولا يربطها أي رابط باليابسة، حالها كحال السفن.
ففي مقابلة أجراها موقع Inhabitat مع المعماري الهولندي Koen Olthuis الّذي اشتهر بتصاميمٍ مبتكرة أطلق فيها العنان لخياله، خارجاً عن حدود المألوف..
حيث يقول Olthuis مجيباً عن سؤال حول المزايا التي يقدمها البناء على سطح مياه البحر:
إن أهمية بناء المدن الطافية تأتي في المرتبة الأولى من كونها ملجأ أكثر أماناً من المدن المبنية على اليابسة، وذلك لتفاقم أزمة التلوث والاحتباس الحراري، مما يجعل المدن الساحلية في خطر الانغمار بمياه البحار والمحيطات، كما أنها أكثر أماناً في حال حصول الأعاصير والزلازل، فعندما تكون اليابسة مهددة بالمياه، يكون المكان الأكثر أمناً هو المياه، وذلك لأنه عندما تحدث حركة في الصفائح الأرضية في قاع المحيطات تتولّد نتيجتها أمواجٌ هائلة تضرب سواحل اليابسة المقابلة لها، وتزداد هذه الأمواج ارتفاعاً كلما اقتربت من الشريط الساحلي لليابسة، وبالإضافة لذلك فإن المدن الطافية تتحرك مع الأمواج بمرونة، مما يجعلها أقل عرضة للًخطر مما هي عليه فيما لو كانت مثبتة على اليابسة في مواجهة هذه الأمواج العاتية، كما أنّ المياه تعمل كمخِّمد طبيعي يمتص الارتجاجات في حال حدوث الزلازل، مما يعزل العناصر الطافية عن هذه الارتجاجات ويقيها من خطر الانهدام.
أما في المرتبة الثانية فتأتي أهمية المدن العائمة من كونها قابلة للتعديل، وخاصةً مع ازدياد الطلب على الفراغات العمرانية في المراكز المكتظة للمدن.
وفي سؤال آخر حول مدى استدامة المدن الطافية واحترامها للبيئة يقول Olthuis :
نعتمد الآن بشكل أساسي على موارد اليابسة، ولكن مفهوم الاستدامة يفرض علينا توازناً في استخدام خيرات اليابسة والمياه معاً في مختلف متطلباتنا من الطعام والطاقة والمياه النظيفة. وعلى عكس البناء على اليابسة، البناء على الماء يوفّر فرصاً كبيرة في استغلال المياه لأغراض التدفئة والتكييف، إضافة للمساحات الواسعة والتي تمككنا من استخدام الخلايا الشمسية الطافية لتوليد الطاقة، بالإضافة لإعادة استخدام الأبنية وتنظيمها، وحصر عملية إنشاء الأبنية في مكان واحد، ومن ثم نقلها لمكانها ضمن نسيج المدينة.
وفي سؤال عن أكثر مشروع يروقه لمنشأة طافية عمل فيه يجيب:
الميناء الطافي في إمارة دبي، حيث أن هذا المشروع قد كسر جميع الحدود التقليدية لعملية التصميم، فبما أننا نصمم مبنى لسفن طافية على المياه، لماذا لا يكون هذا المبنى طافياً أيضاً؟!
فكرة المبنى العائم توفر لنا حرية كبيرة، حيث لم يعد علينا أن نقلق حيال جوار المبنى وانسجامه معه، ولا يُفرَض علينا مساحة محددة يجب الالتزام بها.
وبالإضافة لاستدامة المشروع من حيث استخدام المياه في أنظمة التكييف، واستخدام الخلايا الشمسية لتوليد الطاقة، فإن الميناء بحد ذاته سيعمل ككاسر أمواج ومخمّد رياح للميناء الداخلي الآخر .
نترككم الآن مع سبعة أمثلة مختارة عن منازل ومجمعات سكنية طافية
1-المجمع السكني العائم الأول في العالم، هولندا
أعلن مكتب Waterstudio في عام 2014 عن بداية إنشاء المجمع السكني الطافي الأول من نوعه في العالم. تأتي أهمية هذا المجمع من كونه سيوفر جهد وتكاليف ضخ المياه خارج موقعه، حيث من المعروف أن هولندا هي موطن لأكثر من 3500 منخفض يقع تحت سطح البحر، ومن هنا جاءت تسمية البلاد بالأرض المنخفضة، حيث أن مايقارب نصف مساحتها تتوضع تحت منسوب مياه البحر، وقد اضطرت السلطات لضخ المياه خارج هذه المنخفضات على مدار الساعة. إلا أنه ومع تراجع فكر مقاومة الطبيعة واستبداله بالتفكير بأساليب أخرى للتجاوب معها بدلاً من مقاومتها، طرح مكتب Waterstudio فكرة المجمع العائم للاستغناء عن ضخ الماء وتركه في المنخفضات واستغلال سطحه بأبنية طافية.
القاعدة الأساسية للمجمع ستبنى من البيتون الكثيف، وستتوضع عليها الشقق السكنية ومواقف السيارات، وستُغلف الوحدات السكنية بطبقة من الألومينيوم وستُزرع أسطحها العلوية بغطاء أخضر نباتي، وستُربط القاعدة البيتونية بجسر يصلها بالأرض المجاورة مما سيسمح بدخول مركبات الصيانة والطوارئ، وما إن تعود المياه لتملأ المنخفض، سيطفو المجمع على مايقارب 2 م من المياه.
في داخل المجمع، نجد فراغ عمارنياً أمام كل وحدة سكنية، بالإضافة لمرسى مخصّص لقارب صغير، وبيوت زجاجية للزراعة موزعة بين هذه الوحدات، حيث سيكون هذا المجمع أكثر احترماً للبيئة وأكثر فعاليةً في مجال الطاقة بنسبة 25% من المجمعات المبنية على الأرض. ونظراً لحجمه الكبير، فإن السكان لن يشعروا بالاهتزازت الناتجة عن سطح المياه.
2- المنزل العائم من تصميم مكتب Friday SA
النمذجة والحركة:
صُمِّم المنزل مع أثاثه وفرشه الداخلي بطريقة النمذجة التي تمكن من توسيعه وتغيير الوظائف الداخلية عند الحاجة حيث من الممكن أن يغدو منزلاً بثلاث غرف نوم مع حمامين أو أن يكون منزلاً صغيراً يحوي كل وسائل العيش المريح، كما يمكن لهذا المنزل أن يبحر بسرعة 3 عقد، وذلك لامتلاكه محركين خارجيين، مما يسمح بالقيام برحل بحرية ممتعة.
إمكانية النقل:
تصميم المنزل المنمذج يُمّكن من تفكيكه، وتخزينه بحاويتين مع كافة أجزائه، وأثاثه الداخلي، وبالتالي يمكن نقله لأي مكان في العالم.
الترشيد البيئي:
صُنع المنزل باستخدام مواد ذات تأثير منخفض على البيئة، الأمر الذي يخفّض الانبعاثات الكربونية، واحتياجات المنزل من الطاقة، بالإضافة لتجهيز المنزل بمحطة صغيرة لمعالجة المياه المتسعملة.
الكفاءة:
وعندما يُشحن المنزل (بالطاقة) بشكل كامل، فإنه يكتفي ذاتياً لمدة 7 أيام، كما أنه يؤمن احتياجاته من الطاقة بشكل كامل لمدة ستة أشهر، وبنسبة 80% لمدة سنة.
الرفاهية والراحة:
يحتوي المنزل على مطبخ مُجّهز بشكل كامل، ومولد للتكييف الهوائي، وأنابيب للتدفئة، وركن للشواء على سطحه في الأيام المشمسة، كما أنه يحتوي على موقد لتأمين الدفء في الأيام الباردة.
3- المنازل العائمة في أمستردام، هولندا
لربما فكرة المنازل العائمة ليست بالجديدة كلياً، وذلك لوجود الكثير من القوارب التي تحوي مقومات العيش فيها، إلا أن ما يعتبر جديداً هو بناء المنزل ذي الوظيفة السكنية بشكل كامل على المياه، حيث تعتبر هذه المنازل بشكل قانوني من الأملاك غير المنقولة، كما أنها تحوي على فراغ داخلي مريح وكبير، مشابهاً لمثيله في المنازل المبنية على اليابسة، وهذا ما نراه في مشروع المنازل العائمة في أمستردام حيث يحوي على مايقارب 75 منزل طافياً ومنشآت تخديمية على ضفة البحيرة.
ولعل السبب الرئيسي في البدء بإنشاء هذه المجمعات السكنية العائمة هو ارتفاع منسوب مياه البحر وما يترتب على ذلك من مخاطر انغمار المدن الساحلية بالمياه، بالإضافة للمساحات الواسعة التي يؤمنها البناء على سطح البحر، على الرغم من تضارب الآراء حول النقص الذي نواجهه في المناطق المؤهلة للبناء على اليابسة.
4- المنزل العائم على بحيرة Huron في أونتاريو، كندا
نظراً لتغيّر منسوب مياه البحيرة على مدار الفصول، جاءت فكرة استخدام المنزل العائم لكي يتجاوب مع هذا التغيير المستمر. ولتخفيض تكاليف الإنشاء قام المكتب بالتعاون مع المقاول بتقسيم مراحل إنشاء المنزل، فأجزاء من المنزل تم تصنيعها في الورشة، ومن ثم تجميعها في الموقع، وأجزاء أخرى صُنعت في الموقع نفسه، حيث نقل المنزل خلال مراحل إنشائه لما يقارب 80 كم.
صُمِّم المنزل بطريقة تدمج فراغاته الداخلية مع الفراغ الخارجي، مما يؤمن وحدة كاملة ويحقق الانسجام مع البحيرة واستمرارها للفراغ الداخلي في المنزل، كما جُهزت الواجهات الجانبية بكاسرات ستائرية تمكن من التحكم بشدة الضوء الداخلة للمنزل، وتخفيف وطأة الرياح.
5- المنزل العائم في سياتل، الولايات المتحدة
يقع المنزل على بحيرة Lake Union في سياتل، مما يمنحه إطلالة بانورامية رائعة، وقد استُغلت هذه الإطلالة بشكل كبير من خلال إضافة الألواح الزجاجية للطابق الأرضي الذي يحوي الفراغات الخاصة لتأمين التواصل البصري مع الجوار والبحيرة، ويحوي الطابق العلوي الفراغ المخصص للنشاطات الاجتماعية الترفيهية، ويتصل مع الطابق الأرضي بدرج حلزوني، حيث حقق هذا التوزيع للوظائف الاستغلال الأكبر للإضاءة الطبيعية والإطلالة على حدٍّ سواء.
كما اختيرت مواد الإكساء الداخلية منها والخارجية بعناية فائقة، لتحقق قيمتها الجمالية وديمومتها العالية، حيث تغطي صفائح الألمنيوم الحمامات واجهة فراغ التخزين في المنسوب الأرضي، كما تم إكساء الطابق العلوي بألواح بيتونية ممزوجة بالألياف، وعازلة لمياه الأمطار، بالإضافة لبرج الدرج الذي يربط الطابقين ببعضهما، ويشكل عنصر بصري هام في كتلة المبنى ككل، كما أضيف الكاسرات الشمسية للنوافذ بحيث تؤمن التحكم بشدة الإضاءة دون أن تحجب الإطلالة الرائعة للبحيرة مُحققة بذلك امتداد البيئة الخارجية المحيطة بالمبنى إلى داخله.
ومن الناحية البيئية تُحسن معالجة السطوح الزجاجية بالكاسرات فعالية عملية التدفئة والتكييف الطبيعية، كما تُؤمن الضوء الطبيعي للفراغات الداخلية، فضلاً عن تزويد المبنى بشبكة من الأنابيب المتوضعة في الأرضيات لتأمين التدفئة، ونظام تهوية لتأمين الهواء المنعش، مما يزيد من كفاءة الطاقة في المنزل.
6- المنزل العائم المغلف بالخشب، هامبورغ، ألمانيا
يقع المنزل على قناة Eilbek في مدينة هامبورغ، ويتمتع بجوار ذي إطلالات أخّاذة. تبلغ مساحته مايقارب 110 م٢، يتميز الفراغ الداخلي للمنزل بأركان المعيشة الّتي تُوحي بأجواء منزل معاصر أكثر من كونه منزل عائم على سطح الماء، حيث أُنشئ المنزل بنظام الجدران الفولاذية والخشب الذي يغلفه من الخارج ويضفي عليه مظهره المعاصر.
ونهايةً، نترككم مع هذا التصميم لمنزل زجاجي (بيت بلاستيكي) يعمل بكفاءة عالية لتأمين الغذاء للمجتمعات الفقيرة.
تتقلّص نسبة الأراضي الزراعية حول العالم باستمرار، الأمر الذي يهدد بأزمات كبيرة في الأمن الغذائي. وهذا ما حذا بفريق من المعماريين لتصميم هذا البيت الّذي يصلح لمختلف البيئات، ويؤمن مصدر إضافي للغذاء، حيث تنتج المزروعات في هذا المنزل بدون تربة، وذلك من خلال غمس جذورها بأحواض للمياه الحاوية على الأملاح اللازمة لنمو البنات.
أُنشئ البيت بواسطة الأخشاب والمواد المعاد تدويرها، كما يعتمد بشكل أساسي على الطاقة الشمسية، مما يجعله قابلاً للتنفيذ في المجتمعات التي تعاني من النقص في المياه والغذاء.
أطلق المصممون عليه اسم Jellyfish Barge حيث تبلغ مساحة قاعدته الخشبية 750 قدم مربع (70م2)، وتطفو هذه القاعدة على مايقارب 96 برميل من المواد البلاستيكية المُعاد تدويرها، وبهذه المواد حقق المصممون إمكانية إنشاء هذا البيت في مختلف البيئات بتكاليف قليلة. ويؤمن هذا البيت البلاستيكي الاحتياجات الغذائية لعائلتين، كما يمكن توسيعه ليدعم الاحتياجات الغذائية لتجمُّعات أكبر.
كما زُوِّد البيت بسبعة أنابيب شمسية، تقوم بامتصاص وتنقية الماء باستخدام الطاقة الشمسية، ويمكن لهذه الأنابيب أن تُنتج ما يقارب 150 لتراً في اليوم من المياه النظيفة المستخرَجة من المياه المالحة أو الملوثة لاستخدامها في سقاية المزروعات داخل البيت الزجاجي، كما يمكن التحكم بنظام الزراعة المذكور آنفا بشكل آلي.
لربما كانت فكرة المدن العائمة حكراً على أفلام الخيال العلمي، إلا أنها أضحت الآن حلّاً محتمَلاً لمدننا وخاصة في ظل الازدياد السكاني الكبير الذي نشهده، ولربما سنشهد عصر غزو البشر للبحار بعدما عاثوا فساداً على اليابسة. ومن ناحية أخرى، ألا تؤمّن المدن الطافية ميزات كبيرة لا تؤمنها المدن المبنية على اليابسة؟ أوليس من الجميل أن ينقل الإنسان منزله للمدينة التي يشاء؟ ويعيش حياته متنقلاً بين المدن، متعرفاً على الحضارات والشعوب؟
شاركونا بآرائكم
المصادر: