البيولوجيا والتطوّر > منوعات بيولوجية
شيخوختُك... بِيَدِ شبكةٍ بيولوجيةٍ معقّدة
تُعدُّ الشيخوخةُ من أكثرِ الظواهرِ والعملياتِ البيولوجية غموضاً، وحتى الآن لا يوجد تعريفٌ وتفسيرٌ علميٌّ دقيقٌ لها. نستطيع جميعاً التعرّف على علاماتِ الشيخوخة، لكنَّ الأمرَ يصبح أكثر تعقيداً عند محاولتنا التنبّؤَ بالعواملِ المسبّبة للشيخوخة والمحدّدة لموعد الوفاة، فأغلبُ هذه العواملُ تكون عشوائيةً في تأثيرها.
أوجد فريق الباحثين بقيادة Nicholas Stroustrup في مختبر البروفيسور Walter Fontana المُختَصّ في الأنظمةِ البيولوجية في كلية الطب في جامعة هارفارد، انتظاماً إحصائيا عجيباً يعكس كيفية تأثيرِ مختلفِ العواملِ الوراثيةِ والبيئيةِ على فترة حياة دودةِ Caenorhabditis elegans.
إذاً، هذه الدودة هي بطلة مقال اليوم. فمن هي ولمَ اختيرت؟
يستخدم البيولوجيون في أبحاثهم دودة Caenorhabditis elegans لكونها مثالاً نموذجياً مبسّطاً لجسمٍ حيّ تجري فيه عمليّاتٌ معقّدةٌ. يتألّف جسم الدودة من 959 خلية جسميةٍ شفافةٍ يُمكن رؤيتها بالمجهر. أمّا متوسّط فترة حياة هذه الدودة، فيتراوح من 2-3 أسابيع، وهذا يسمح بدراسة دورة حياتها الكاملة خلال فترة قصيرة. يبلغ طولها 1 ملم فقط ويُمكن تنميتها في أطباق بتري مزروعة بالبكتريا.
فمن أجل دراسة ديناميكية استمرار الحياة على مستوى مجموعة سكّانية صمّمَ Nicholas Stroustrup جهازاً لقياس فترة الحياة. يتألف هذا الجهاز من 50 ماسحٍ ضوئي بسيطٍ، يعمل كلّ ماسح ضوئي على مراقبة 16 طبق بتري على مدار الساعة. وصل إجمالي عدد أطباق بتري التي روقبت إلى 800 طبقٍ حاوٍ على 30000 دودةٍ من نوع C.elegans
خلال التجربة عُرِّضَت الديدان إلى تأثير عواملَ مختلفةٍ كالتغيرات الحرارية، والإجهاد التأكسدي، والتغيرات في النظام الغذائي بالإضافة إلى التلاعب بالجينات (التأثير على مستقبلات الأنسولينinsulin-IGF-1 pathway). أمّا الجهاز، فكان يقيس طول المدّة التي كانت تعيشها الدودة الواحدة بعد خضوعها لتأثير عاملٍ واحدٍ.
في نهاية التجربة، جُمعت البيانات وحُلِّلَت باستخدام أساليب الإحصاء الرياضي. لقد اهتمّ الباحثون بقياس مدّة حياة كلِّ كائنٍ دون أخذ المتوسّطات، كما اهتمّوا بمقارنة الأسبابِ التي أدّت إلى الوفاة في سنِّ مبكّرة مع الأسباب التي أدّت إلى الوفاة في سنّ متقدّمة لأفراد مجموعة كبيرة من الأحياء. وقد أعطى هذا المبدأ تصوّراً أكثرَ شمولاً لديناميكية الشيخوخة.
لم تكن نتائج البحث مُفاجِئةً، وتلخّصت في أنَّ العوامل والظروف المعيشية المختلفة أدّت إلى الاختلاف في مدّة الحياة. أدّى بعض التغيرات في الظروف المعيشية (كارتفاع في الحرارة) إلى قفزاتٍ ملحوظةٍ وسريعةٍ في منحني معدّل طول الحياة، ولكن بعض التغيرات الأخرى أدّى إلى قفزاتٍ طفيفةٍ ومستمرّة على المنحني.
أثرّت التغييراتُ المختلفة على مدى حياة الأفراد الخاضعين للتجربة جميعِهم وبالطريقة نفسِها. فبغضِّ النظر عن نوعية العامل البيئي أو الوراثي الذي استهدفه الباحثون، تأثّرت العوامل البيولوجية والجزيئية المُسبّبة للوفاة جميعها في الوقت نفسه والقدر نفسِه.
يقول Walter Fontana: "من الصَّعب جدّاً دراسةُ فترة حياة الكائن على المستوى البيولوجي الجزيئي وفي الوقت الحقيقي. لكن بالدراسة الإحصائية لنقاط نهاية الشيخوخة (الوفاة)، تعرّفنا على بعض أسرار عملية الشيخوخة التي تحدّدُ بدورها نقطةَ نهاية الحياة".
تسمح نتائجُ هذه التجربةِ بالإشارة إلى أنّ عمليةَ الشيخوخة لا تخضع لسببٍ أو عاملٍ بيولوجيٍ جزيئيٍ منفصلٍ واحدٍ، بل على العكس، تتضمّن هذه العملية العديدَ من المكوّناتِ المترابطةِ في شبكةٍ بيولوجيةٍ معقّدة، وتشويشُ أيّ جزءٍ من هذه الشبكة سيؤثّر على الأجزاءِ جميعِها.
يخطّط الباحثون حالياً للتعمّق أكثر في دراسة وتحديد عملية الشيخوخة عند البشر. كما سيحاولون أن يفهموا تفاصيلَ كيفية ارتباط وتأثير مكوّناتِ عمليةِ الشيخوخة ببعضها البعض وكيفية تحديدها لفترة الحياة.
المصادر:
البحث الأصلي: هنا