تطور ظاهرة الانحراف والنموذج الطبي في محاولة علاجها

استمع على ساوندكلاود 🎧

لطالما تردَّدَ صدى كلمةِ (الانحرافِ) في المجتمعاتِ على اختلافِ ثقافاتِها ومنظوماتِها الفكريةِ والقانونية، وعلى مَرِّ العصورِ والحِقَبِ التاريخية. ولطالما اختلفتْ نظرةُ هذه المجتمعاتِ لظاهرةِ الانحراف؛ فوجدها البعضُ (إثمًا)، وقال البعضُ إنها (جريمة)، ومنهم مَن وصَفَها بـ(المرض)؛ وعلى ذلك كَثُرَتْ أساليبُ السلوكِ المنحرف، وأنماطُ التعاملِ الاجتماعيِّ معه.

في هذا المقال، سنذكرُ أهمَّ السِّجَالاتِ التي قامتْ حولَ هذه الظاهرة، والتغيراتِ التي ارتبطتْ بتعريفاتِ الانحراف، وكيف حاول الطبُّ معالجةَ هذه الظاهرة.

تعريفُ ظاهرةِ الانحراف:

يَعُدُّ المذهبُ التفاعليُّ -في علمِ الاجتماع- الأخلاقَ مُركِّبًا اجتماعيًّا يختلفُ التعاملُ معه؛ بحسْبِ الأشخاصِ، والسِّياقِ، والثقافاتِ، والحِقْبةِ التاريخيّة. إنَّ الأخلاقَ -حسْبَ هذا المنظور- هي نِتَاجُ أفكارِ جماعاتٍ من الناسِ الذين توصّلوا إلى مبادئَ معيّنةٍ بناءً على مصالحِهم واهتماماتِهم ورؤيتِهم للعالم، ولا شكَّ أنَّ مَن يتمتّعُ بقوّةٍ أكبرَ في المجتمع هو القادرُ على وضعِ وفرْضِ قوانينِه ومبادئِه على الآخرين. ونتيجةً لذلك يغدو (الانحرافُ) عبارةً عن الأفعالِ أو السلوكياتِ التي تُعرَّفُ بأنها تشكِّلُ خَرْقًا لتلك المبادئِ التي أرْسَتْها المجموعاتُ المتمتِّعةُ بسُلْطةٍ اجتماعية.

في الحقيقة، لا تحملُ تسميةُ (الانحراف) في علمِ الاجتماعِ حُكمًا أو وصفًا على أنه سلوكٌ سيّئٌ بالمطلق، بل على العكس، يوجدُ كَمٌّ لا يُستهان به من التعارُضِ بين رؤى علمِ الاجتماعِ والآراءِ السائدةِ في المجتمع. لذا فإنّ المقالَ يَستخدمُ هذه العبارةَ ليصفَ طريقةَ تعامُلِ المجتمعِ مع سلوكٍ أو نشاطٍ ما، ويبتعدُ عن رؤيةِ الانحرافِ سِمَةً متأصِّلةً في السلوكِ بحدِّ ذاتِه.

وعلى ذلك، فإنّ الانحرافَ ظاهرةٌ عالميّة، رغمَ أنه ما من أنماطٍ معتمَدةٍ عالميًّا له. يُستثنى من ذلك القليلُ من الأفعال، ولعلّ أحدَها (سِفَاحُ القربى)، الذي يُعَدُّ انحرافًا في أغلبِ المجتمعات. إلا أنّ تعريفَ ظاهرةِ (سِفَاحِ القربى) نفسَه يَخضعُ للتبايُنِ؛ باختلافِ الثقافات، إذْ تَقْصُرُه بعضُها على العلاقاتِ الجنسيّةِ بين الإخوة، بينما يَتعدَّى في غيرِها إلى علاقاتِ أبناءِ العُمومِ والعمّات.

يلخِّصُ عالمُ الاجتماعِ الأمريكيِّ هاورد بيكير Howard S. Becker مسألةَ تَوَلُّدِ الانحرافِ في المجتمع، فيقول: «تخلُقُ الفِرَقُ الاجتماعية الانحرافَ عبرَ وضعِ القوانينِ التي يشكّلُ خرقُها الانحراف، بالإضافة إلى تطبيقِ هذه القوانينِ على ناسٍ معيّنينَ ونعْتِهم بالـ(منحرفين)».

التحكمُ الاجتماعيُّ ووسائلُه:

تطلَقُ عبارةُ (التحكمِ الاجتماعيِّ) على الوسائلِ التي يوظِّفُها المجتمعُ لضمانِ الالتزامِ بالأَعرافِ الاجتماعية، وتُعنى بشكلٍ خاصٍّ باستئصالِ أو تقليصِ أو تعديلِ السلوكِ المنحرِف. ويعملُ (التحكمُ الاجتماعيُّ) على عدّةِ مستويات، منها الرسميّةُ وغيرُ الرسميّة:

- فالأساليبُ غيرُ الرسمية: تشمَلُ التحكُّمَ الذي يُفرَضُ على المرءِ ذاتيًّا، ومن خلالِ علاقاتِ الأفرادِ ببعضِهم. والتحكُّمُ الذاتيُّ يتضمّنُ القيمَ والأخلاقَ والمعتقداتِ التي رُسِّخَتْ لدى الفردِ من قبلِ بيئتِه، وغالبًا ما يُطلَق عليه (الضمير).

- أما بالنسبة للأساليب الرسمية: فالمقصودُ بها المؤسساتُ الرسمية؛ كالمشافي والسجون.

وفي دراسةِ موضوعِ الانحراف، ينبغي الإشارةُ إلى ثلاثةِ أنماطٍ رئيسيّةٍ مرّتْ بها هذه الظاهرة، وهي: الانحرافُ بوصفِه (إثمًا)، وبوصفِه (جريمةً)، وبوصفِه (مرضًا). فخلال الحِقَبِ التي طغتْ فيها على المجتمعِ سلطةٌ دينيّة، كان الانحراف إثمًا، تلا ذلك نهوضُ الدولِ إثْرَ انهيارِ النظامِ الإقْطاعيّ، فغدا الانحرافُ جريمةً، وانتهى المطافُ بالانحرافِ في ظلِّ توجُّهِ المجتمعاتِ للعِلْمانيةِ والبحثِ العلميِّ إلى تصنيفِه مرضًا.

تسمياتُ الانحرافِ والتغيّراتُ الاجتماعية:

للتغيُّراتِ التي أصابت تعريفَ (الانحرافِ) تداعياتٌ تَطالُ نواحيَ أبعدَ من مجرّدِ تحديدِ نمطِ التحكُّمِ الاجتماعيِّ الذي ينبغي تطبيقُه، وتركّزتْ هذه التغيُّراتُ حولَ السلطةِ الشرعية، ومعنى السلوك، ووجهةِ نظرِ القانون، ونطاقِ الانحراف، وتحمُّلِ مسؤوليةِ فعلِ الانحراف. لكن كيف ذلك؟

1- تغيُّرُ السلطةِ الشرعية: وهي تلك التي تَختصُّ عادةً بالحكمِ على السلوكِ المنحرف. ففي نهايةِ القرنِ السابعَ عشر، أصبحَ الأطباءُ معنيّينَ بموضوعِ الجنون، عِوَضًا عن رجالِ الدينِ والقانون.

2- تغيُّرُ معنى السلوك: على سبيل المثال، فإنّ ما يعانيه بعضُ الأطفالِ من إفراطٍ في النشاطِ لم يَعُدْ يُرى شكلًا من أشكالِ التمرُّدِ والعصيان، بل أصبحَ عَرَضًا من أعراضِ اضطرابِ فَرْطِ الحركة.

3- التغيُّر المحتمَلُ لوضعِ الانحرافِ من وجهةِ نظرِ القانون: فإلى يومِنا هذا، تختلفُ الآراءُ حولَ طيفٍ واسعٍ من المواضيعِ التي لم تزل محطًّا للجدل؛ كممارسةِ المثليّةِ الجنسيّة، التي قد تُعدُّ أسلوبَ حياةٍ مقبولًا في بعضِ الثقافات، وجُنْحًا يَستوجِبُ العقابَ في غيرها.

4- تغيُّرُ النِّطاقِ الذي يُصَنَّفُ ضمنَه الانحراف، إضافةً إلى المفرداتِ التي تُوَظَّفُ في وصفِه: على سبيل المثال، عَدُّ الاستمناءِ إثمًا وتدنيسًا للروحِ والجسد من وجهةِ نظرٍ دينيّة، مقابلَ اعتبارِه ممارسةً مرَضيّةً ذاتَ آثارٍ جانبيةٍ مضرّةٍ بالصحة من وجهةِ نظرٍ طبيّةٍ سادتْ خلالَ عصورٍ وثقافاتٍ عدّة.

5- تغيُّرُ تحمُّلِ المسؤوليةِ عن الفعلِ المنحرِفِ المُرتكَب: إذْ إنّ المنحرِفَ الـ(مجرمَ) مسؤولٌ عن جُرْمِه، فيما أنّ المنحرِفَ الـ(مريضَ) ليس كذلك.

العلاقةُ الإشكاليةُ بين الطبِّ والأخلاق في معالجة الانحراف:

كثيرًا ما يَجْزِمُ النَّموذجُ الطبيُّ في معالجةِ الانحراف، باتّباعه منهجًا أخلاقيًا محايدًا؛ كونَهُ يتّبعُ أُسُسًا علمية. ولكنّ المفارقةَ تكمنُ في رؤيةِ الانحرافِ إثمًا أو جريمةً أو مرضًا مُتَغيّرًا اجتماعيًّا يختلفُ باختلافِ الحِقْبةِ التاريخيةِ والنظامِ السياسيِّ القائم، فهل يعني هذا أنّ النظرةَ الطبيّةَ للانحرافِ مرتبطةٌ في أصلِها ارتباطًا وثيقًا بتطوُّرِ النظامِ الأخلاقيِّ في المجتمع؟

حتمًا هي كذلك، ولعلّ أحدَ أبرزِ الأمثلةِ التي ارتَكبَ الطبُّ بها أخطاءً أخلاقيةً جسيمة؛ هو تشخيصُ المعارضينَ السياسيّينَ في الاتحادِ السوفييتيِّ وألمانيا النازيّةِ سابقًا؛ بأنّ لديهم اضطراباتٍ عقليةً؛ لمجرّدِ اختلافِ توجُّهاتِهم عن توجُّهاتِ السلطةِ الحاكمة؛ فغدا بذلك هؤلاء مصابينَ بـ(جنونِ الارتيابِ المترافقِ بأوهامٍ مناهضةٍ للثورة).

إنّ اتّباعَ منهجٍ علاجيٍّ طبيٍّ بحْتٍ تجاهَ الانحراف؛ ينطوي على إشكالٍ جوهريّ، فمع تجنُّبِ التطرُّقِ إلى الجانبِ الأخلاقيّ، من السهلِ تحوُّلُ الضوابطِ والمعاييرِ الصحيّةِ إلى وسائلِ قمعٍ وإكراهٍ سياسيّة.

مع الآمالِ والتوقُّعات المتزايدةِ التي علّقَها المجتمعُ بكفاءة العلم؛ ظهرَ فرعُ الطبِّ السلوكيّ، وانكبَّ ممارسو الطبِّ على دراسةِ التشخيص، ومحاولةِ التحكُّمِ بالأفعالِ التي تُعدُّ مشاكلَ سلوكيّةً اجتماعيّة. يستندُ هذا المنهج إلى تِقْنِيَتيْنِ أساسيّتينِ، وهما (الترسيخُ الإيجابيّ)؛ كتقديمِ الجوائزِ عندَ تَكْرارِ السلوكِ المرغوب، و(الترسيخُ السلبيّ)، عن طريقِ العقاب، أو تطبيقِ مُحرِّضٍ سلبيٍّ متزامنٍ مع وقوعِ السلوكِ المنحرف.

رُكِّزَ على تطبيقِ التِّقْنِيَةِ الأخيرةِ في محاولةِ معالجةِ السلوكِ الجنسيِّ المنحرِف أو غيرِ المرغوب؛ كالبِيدوفيليا، والمثليةِ الجنسية؛ عبرَ إخضاعِ الفردِ إلى رؤيةِ صورٍ تركِّزُ على هذه المواقف، مع صَدْمِه صدماتٍ كهربائيةٍ منخفضةِ الشدَّةِ حولَ المنطقةِ التناسلية؛ في محاولةٍ لربطِ الإثارةِ الجنسيةِ المنحرفةِ بالشعورِ بالألم. لم تُثبَتْ إلى الآنَ فاعليّةُ هذه التقْنِيَة، ولم تُعرفْ آثارُها الجانبيةُ بعد، كما أنّ الطبَّ السلوكيَّ إجمالًا لمْ يُحدِث النجاحَ المَرْجُوَّ منه في (تصحيحِ) سلوكِ المنحرفين مِن المجرمين، حسْب ما تشيرُ إليه معدَّلاتُ الانتكاس (recidivism)( ) التي لا تزالُ مُقلقة.

ختامًا، إنَّ عدمَ توصُّلِ البشريةِ بعدُ إلى نَموذجٍ موحَّدٍ أمثلَ في معالجةِ الانحراف؛ يبدو أمرًا محتومًا في ظلِّ التغيُّرِ المستمرِّ الذي يحيطُ بمفهومِ الانحرافِ بحدِّ ذاتِه. لكنْ يبقى تطوُّرُ البحثِ العلميِّ -معَ إبقائِه المحاولةَ لمراعاةِ الاعتباراتِ الإنسانيةِ نُصْبَ عينيْه- يحملُ الأملَ في التوصُّلِ إلى سبلٍ أنجعَ لعلاجِ هذه المشكلة.

*الصورة المرفقة للمقال هي عن فيلم A Clockwork Orange والذي تناول علاج لظاهرة الانحراف.

المصدر:

Deviance and Medicalization: From Badness to Sickness by Peter Conrad and Joseph W. Schneider