الفيزياء والفلك > فيزياء
باحثون يخلقون ثقباً دوديّاً مغناطيسيّاً.
بدايةً لنُنصف علماء الفيزياء فهُم لم يسرقوا فكرة الثقب الدودي من روايات الخيال العلميّ حيث أنّ فكرة الثقب الدوديّ أتت من نظريات العالم ألبرت أينشتاين. وبالتحديد في عام 1935م حين أدرك اينشتاين وزميله ناثان روزن أنّ نظرية النسبيّة العامّة تسمح بوجود جسورٍ يمكنها وصل نقطتين مختلفتين في الزمان والمكان. استخدم مؤلفو روايات الخيال العلمي الثقب الدوديّ في نقل الأجسام عبر المجرّات والكواكب، أمّا الفيزيائيّون فصمموا هذا الثقب الدودي ليشكّل نفقاً يمرّ عبره الحقل المغناطيسيّ في الفضاء من مكانٍ إلى آخر. نظريّاً تسمح جسور اينشتاين-روزن أو ما يسمى بالثقوب الدوديّة بانتقال نفقيٍّ آني عبر مسافاتٍ كبيرةٍ، إلّا أنّ الجسور في هذه النظرية بالغة الصغر ولهذا فإنّ الأجسام العاديّة لا يمكنها السفر عبرها. حتى لحظة كتابة هذه السطور لم يجد أحد أدلّةً على وجود مثل هذه الثقوب الدوديّة الزمكانيّة في الفضاء.
ولكن لا تُصَب بخيبة الأمل فالعلماء لم يفقدوا حماسهم وحاولوا خلق مثل هذه الثقوب مخبريّاً وذلك لاستعمالها في تقنيّةٍ أخرى من التقنيّات الموجودة في روايات الخيال العلميّ، عباءة الإخفاء Invisibility Cloak، وطرحت هذه الفكرة لأولّ مرّة في مقالٍ نُشِر عام 2007 في مجلّة Physical Review. إذ حاولوا صنع ثقبٍ دوديٍّ يحجب الأمواج الكهرومغناطيسيّة (الضوء) عن الرؤية بالنسبة لمراقبٍ خارجيّ. إلّا أنّ المشكلة التي واجهتهم كانت أن المواد اللازمة لإخفاء الضوء غير عمليّةٍ ومن الصعب التعامل معها.
الثقب الدوديّ المغناطيسيّ:
ولكن تبيّن لاحقاً أنّ المواد المطلوبة لإخفاء الحقل المغناطيسيّ متوفرة ومن السهل الحصول عليها. وعندها قام العلماء بصنع جهازٍ يعمل كثقبٍ دوديٍ مغناطيسيّاً.
قال جوردي بارت كامبس طالب الدكتوراة في جامعة أوتونومس في برشلونة في إسبانيا: "هذا الجهاز يستطيع نقل حقلٍ مغناطيسيٍّ من نقطةٍ في الفضاء إلى أخرى وذلك عبر مسارٍ خفيٍّ مغناطيسياً. أي كأنّه ينقل الحقل المغناطيسيّ عبر بُعدٍ إضافيٍّ استثنائيٍّ، ومن وجهة نظرٍ مغناطيسيّةٍ، هذا الجهاز يؤدّي دور ثقبٍ دوديّ".
يتكوّن هذا الجهاز من ثلاثة أقسام:
الأولّ هو ناقل فائق Superconductor على شكل أسطوانةٍ حلزونيّةٍ والذي بإمكانه نقل مستوياتٍ مرتفعةٍ من التيّار الكهربائيّ. يسمّى هذا الجزء بالقلب الداخليّ وهو ضروريّ لحرف أو حني خطوط الحقل المغناطيسيّ وهو يُعتَبر الخطوة الأولى في إزالة اضطرابات الحقل المغناطيسيّ.
الجزء الثاني والثالث هما كرتان متحدتّا المركز.
مهمة القلب الأسطوانيّ هي تمرير الحقل المغناطيسيّ عبره من نقطةٍ إلى أخرى، أما الطبقتين الباقيتين فمهمتهما إخفاء وجود هذا الحقل المغناطيسيّ.
يُصنَع القلب الأسطوانيّ من مزيجٍ من مواد خاصةٍ عالية النفاذية المغناطيسية تؤمّن أكبر تدفقٍ ممكنٍ للحقل المغناطيسيّ تدعى بـ mu-metal (وهي خليطة من المعادن لا تحتفظ بأيّ أثرٍ مغناطيسيٍّ بعد زوال الحقل الممغنط وتتكوّن غالباً في ثمانين بالمئة من النيكل وعشرون بالمئة من الحديد وتستخدم في تغليف الأجهزة الإلكترونيّة الحسّاسة للحقول المغناطيسيّة).
الطبقة الثانية هي عبارة عن طبقةٍ رقيقةٍ مصنوعةٍ من مادّةٍ فائقة الناقليّة للحرارة تدعى أكسيد يتريوم الباريوم النحاسي (yttrium barium copper oxide)، تغطّي الأسطوانة الداخليّة وتقوم بحرف الحقل المغناطيسيّ الذي يمرّ عبرها، أما الغلاف الخارجيّ فمصنوع أيضاً من معدن mu-metal مؤلفٍ من مئة وخمسين قطعةً منفصلةً مرتّبةً بطريقةٍ محدّدةٍ وبشكلٍ مثاليٍّ لإلغاء أثر الحقل المغناطيسيّ الصادر عن القلب الداخليّ.
تصدر عادةً خطوط الحقل المغناطيسيّ من نقطةٍ محددةٍ وتتخامد مع الزمن. ولكن يمكن كشف أثر الحقل المغناطيسيّ من أيّ نقطةٍ في الفضاء المحيط به، أمّا في هذا النفق الدوديّ فينتقل الحقل المغناطيسيّ من أحد أطراف الأسطوانة إلى الطرف الآخر ويكون خفيّاً أثناء الانتقال فيبدو وكأنه ظهر من العدم في الطرف الآخر للأسطوانة.
لهذه التقنيّة تطبيقات علميّة، على سبيل المثال في أجهزة التصوير بالرنين المغناطيسيّ، حيث تستخدم هذه الأجهزة مغناطيساً ضخماً على شكل أنبوبٍ أسطوانيٍّ وتتطلّب أن يتواجد المريض في منتصف هذا الأنبوب الضيّق ليتمّ أخذ صورةٍ تشخيصيّةٍ له. الآن فلنتخيّل وجود جهازٍ ينقل الحقل المغناطيسيّ من مصدره إلى جهةٍ أخرى، هذا سيمكّننا من التقاط صورٍ لمختلف أجزاء الجسم دون الحاجة لوجود المريض داخل أنبوبّ ضيّقٍ. وهذا يريح المرضى وخصوصاً الذين يعانون رُهاب الأماكن المغلقة من التواجد في مساحةٍ ضيقةٍ مثل جهاز الرنين المغناطيسيّ.
للوصول إلى هذه التقنية على الباحثين القيام بتعديلٍ على شكل جهاز الثقب الدوديّ المغناطيسيّ من شكل كرةٍ وهو الشكل الأبسط لعمل النموذج، إلى شكلٍ أسطوانيٍّ يُمكنّنا من توجيه الجهاز نحو اتجاهٍ معيّنٍ، إذ أنّ هذا ضروريّ في التطبيقات الطبيّة.
التطّور التكنولوجيّ السريع الذي تشهده البشريّة حولّ الكثير من أحلام مؤلفي روايات الخيال العلميّ إلى حقيقة، ولا أحد يدري ما هي التقنيّة الخياليّة القادمة التي ستتحوّل إلى حقيقة.
المصادر: