التاريخ وعلم الآثار > التاريخ
هبوط الآلهة إلى العالم السفلي... عذابات تموز, الإله الذي مات وبكاه الجميع
يقولُ الكاتب إميل سيوران "الحزنُ شهيةٌ لا تشبِعُها أيّةُ مصيبة"، ومع أنّ الحزنَ حاجةٌ بشريةٌ رافقت جميعَ المجتمعات، إلا أننا اليومَ نناقشُ تاريخَ الأحزانِ في العراق الذي يمتد ويتجذّر في أعماق الزمان، فهناك للشجنِ أدبٌ، وللبكاءِ مهرجاناتٌ، فلو عدنا آلاف السنين إلى الوراء لزمنِ سومرَ وبابلَ فإننا سنجدُ تلك المواكبَ من الناس تبكي وتلطمُ الوجوهَ في هستيريا جماعيةٍ تُقام بشكلٍ دوري كلَّ عام، لكن لأجل ماذا كلّ هذا الحزن، وما قضيةُ هذا النواحُ المؤلم؟ تعالوا نبحر في أحد أقدم قصص التاريخ...
الشكل (1): عشتار مسلحةً بقوى الطبيعة تسيطرُ على حيوان الفحولة!
كانت حياةُ الإنسانِ الأول مليئةً بالمخاوفِ التي أرعبته والأسئلة التي لا يجدُ لها أجوبة. ومن أهم هذه الاسئلة هي ‘الطبيعة’؛ التي تكون هادئةً معطاءةً أحياناً وغاضبةً مدمرةً برعودِها وبردها وجفافها أحيانا أخرى. لذلك اعتقد الإنسانُ الأولُ أن الطبيعةَ تقع تحت سيطرةِ قوى عظيمةٍ تسكن السماء، ألا وهي الآلهة. كانت هذه الآلهةُ التي بدأ السومريون أولَ قصصها المعروفة مثلنا نحن البشر، يغضبون ويحبون ويكرهون ويتزوجون، لكن مع فارق واحد وهو الموت. لكن مع هذا فهناك إلهٌ يدعى تموز، وقد مات!.
أطلق السومريون اسمَ ‘كور’ على المكانِ الفارغِ الذي يقع بين الأرض و‘البحر الأول’ وإليه تذهبُ أشباحُ الموتى جميعِهم. ومع أن المفروض أن تكونَ ‘كور’ أو العالم السفلي مقتصرةً على البشر الفانين، فإننا نجد في الأساطيرِ القديمةِ نزولَ الآلهة إلى هناك، ولعلّ الإلهَ تموز (أو دموزي عند السومريين) هو أشهرُ هذه الآلهة الميتة.
تبدأ قصةُ دموزي ‘توموز، إله النباتات والماشية’ عندما وقع في حبّ إنانا ‘عشتار، إلهة الحب والحرب’ واستطاع أن يحققَ مبتغاه بالزواج منها، لكنه لم يكن يعلم أن الزواجَ الذي لطالما تاقَ إليه سيفضي به إلى العالم السفلي!
كانت عشتارُ إلهةً طموحة، لم تكتفِ بسيادتها للسماء فأرادت أن تحكمَ مناطقَ العالم السفلي أيضاً والذي كان يرضخُ لحكم أخت إنانا الكبرى التي سماها السومريون ‘ايرشكيجال’ إلهة الموت والظلام.
تسلّحت إنانا بكل النواميس والتعويذات التي تملكها تأهباً لتنفيذِ خطتها المجنونة بالدّخول إلى ‘الأرض التي لا عودة منها’، وقبل أن تهمَّ برحلتها أوصَت وزيرَها ‘ننشوبر’ أنها في حالِ لم تفلحْ في العودة بعدَ ثلاثةِ أيام فعليه أن يندبَها في ‘مجمع الآلهة’ ثم يشدَّ الرحالَ إلى الإلهة انليل ‘كبير الالهة السومرية’ ثم ننا ‘الإله القمر’ فإذا لم يستجب أحدهم لتوسلات الوزير لإنقاذ إنانا عليه أن يذهبَ إلى إنكي ‘إله الحكمة’ الذي لن يتوانى عن إنقاذِها.
تهبط عشتار إلى العالمِ الأسفل وتقتربُ من معبد ‘ايرشكيجال’ المشيدِ بحجر اللازورد، فيعترضُها عند الباب رئيسُ حراس المدخل ويطلبُ منها أن تعرّفَ عن نفسِها، فتلفق عشتار عذراً لزيارتها ثمّ يقودها رئيسُ الحرس بموجب الأوامر والتعليمات التي تلقاها من سيدته ‘ملكة العالم السفلي’ ليمرَ بها عبر بوابات العالم السفلي السبعة. وكانت كلما تمرُ من بابٍ تتجرّدُ من حللها وحلاها قطعةً تلوَ الأخرى وبالتالي أخذت تفقدُ ما تسلّحت به من قوى سحرية، حتى إذا ما عبرت من البوابة السابعةِ والأخيرة جُرِّدت من كل شيء فأصبحت عارية، عندها أُمِرَت أن تسجدَ لـِ‘ايرشكيجال’ و‘الأنوناكي’ وهم القضاةُ السبعةُ المخيفون الخاصّون بالعالم السفلي، صوّبوا إليها نظراتِ الموت وتحولت إلى جثةٍ هامدة.
مرّت ثلاثةُ أيام وثلاثُ ليال، وفي اليوم الرابع وعندما رأى ننشوبر أن سيدتَه لم تعدْ، بدأ رحلته نحو الآلهة ليستجيرَ بها كي تنقذَ إنانا من محنتها. رفض كلٌّ من إنليل وننا مدّ يد المساعدة، إلا أن الإله إنكي ابتدع وسيلةً لبعثِها للحياة بأن خلقَ مخلوقَين لاجنسَ لهما وأمرهمها أن يذهبا إلى العالمِ السفلي وينثرا طعامَ وماءَ الحياة على جثتها. استجابَ الرسولان للأوامر وعادت إنانا إلى الحياة.
ورَغمَ أن إنانا عادت إلى الحياة فإن آلامها ومتاعبها لم تكن قد انتهت، فهناك قانون لا مفرّ منه من قوانين "الأرض التي لا رجعة منها" يقضي بأنه ما من أحد يدخل من أبوابها يستطيعُ العودةَ إلى العالم العلوي إلا إذا قدم بديلاً عنه ليحلَّ محله.
أُذن لإنانا أن تقومَ وتعودَ إلى الأرض ولكنها كانت في حراسةِ عدد من الشياطين الأشداء بُعثوا معها وأُمروا بأن يعودوا بها إلى عالمِ الأموات إن لم تجدْ من يحلّ محلها!
وهكذا خرجت إنانا تسيرُ محاطةً بأولئك الشياطين بموكبٍ رهيب. قصدت أولاً المدينتين السومريتين أوما وبادتبيرا ولكن سرعانَ ما حلّ الذعرُ في قلب الإلهين الحاميين لهما، فلبسا المسوحَ وتمرغا في التراب أمام إنانا التي قبلت خضوعَهم وتذللهم فمنعت الشياطين من أخذهما.
ثمّ تواصل إنانا المسير ومعها حشد الشياطين حتى تصلَ إلى مدينة دموزي (تموز عند البابليين)، أبى دموزي ارتداءَ المسوح أو التذلل أمامَ قرينته بل أنه ارتدى حللَ العيد والأفراحِ وتربعَ على عرشه غيرَ مبال. عندما رأت إنانا زوجها وحبيبها فَرِحاً غيرَ حزين على موتها استشاطت غضباً وصوبت إليه نظرةَ الموت وقامت بتسليمه إلى زبانية العالم السفلي في مشهد مروع.
حاولَ دموزي النجاةَ من مصيره، فنجحَ بالفرار من الشياطين ليختبئ بين الأعشاب ويطلبَ من أخته ألا تشي به. تذهبُ الشياطين إلى بيتِ أخت دموزي ويعذبوها ويقومون استجوابها من أجل الاعتراف بمكان دموزي لكنها تقاوم وتفي لأخيها بوعدها بحمايته، يخشى دموزي أن يصيبَ أخته الوفية شراً على يد هؤلاء الشياطين الذين لا يعرفون الرحمة فيقرر أن يسلمَ نفسه لهم. وما أن صار دموزي الإله المعذب بين يديهم حتى أشبعوه ضرباً بالعصي والسياط ويهيئوه للرحيل معهم. هنا يتوجه بالدعاء إلى أوتو إله الشمس طالباً معونته فيستجيب له ويحول يديه ورجليه إلى قوائمَ غزال فيفرّ هارباً.
لكن الشياطين تلقي القبضَ عليه مرة أخرى وتعود لضرب وتعذيب الإله المعذب مجدداً. لم ييأس ديموزي ونجح بالهرب منهم مرة أخيرة واختبأ في حظيرة أخته، لكن الشياطينَ شديدةَ البأس تصل له وتأخذه معها إلى العالم السفلي.
هنا شعرت عشتار بتأنيب الضمير فهي في الحقيقة مغرمةً به فطلبت من أختها تسويةً لإرضاء الجميع، وكان لها ما أرادت؛ وهي أن يقضيَ الإله تموز في عالم الأموات نصفَ سنة من كل عام تبدأ بشهر تموز تموت أثنائها الزراعة والماشية من شدة الحر والجفاف وينتشر القحط ويغادر بعدها ذلك العالم إلى عالم الأحياء في النص الآخر من السنة لتحلَّ محله أخته التي تطوعت من أجله، وهذا مرتبط بالربيع فتعود الزراعة والخير، وهكذا دواليك.
لعبت قصة نزول عشتار وعذاب تموز دوراً أساسياً في الأساطير الدينية لسكان وادي الرافدين، وعُرف الاحتفال بزواجهما ومواكب العزاء لموته منذ فترة طويلة، حيث يرى الباحثون أن الاحتفال بالزواج بين تموز وعشتار يعود إلى 2700 ق.م.
يذكر الأستاذ فراس سواح أن الاحتفال بهذه الأحداث كان يقع في ٢٥ من نيسان في عيد مدته ثلاثة أيام. حيث يتم في اليوم الأول بكاء تموز الميت وتمثيل عذاباته وآلامه بشكل يدفع جمهرة المحتفلين إلى هستريا جماعية يتخللها إلى جانب النحيب والعويل لطم الخدود وتمزيق الثياب وما إلى ذلك. وفي اليوم الثالث يعلن الكهنة قيامَ السيد من بين الأموات فينقلب المأتمُ عرساً وتبدأ احتفالات العيد الحقيقي التي يتخللها السُكر والمُجون والرقص والموسيقى والممارسات الجنسية.
إن فترةَ العيد المؤلفةَ من ثلاثة أيام لا تعكس فترةَ موت تموز واحتجازَه في العالم السفلي، فطقوس العيد ليست سوى دراما يستعيد فيها المحتفلون قصة عشتار وتموز. لم تكن مواكب الحزن على تموز من طقوس المعبد الرسمية، بل كانت تقام سنوياً ضمن الممارسات الشعبية.
ووصلتنا حول ذلك عدد من المناحات التي ألفها الشعراء السومريون والبابليون للبكاء على الإله الشاب والتي كانت تُقرأ في مواكب العزاء فتُلهب صدورَ الناس. ويُلاحَظُ أن هذه المناحات قد أُلفت على لسان زوجته الإلهة عشتار التي كانت تشعر بعظيم الحزن والأسى على فِراقه رغم أنها كانت سبب عذابه.
وقد استمرت طقوس البكاء على تموز إلى وقتٍ متأخرٍ في الشرق الأدنى. ومثال على ذلك مدينة حران بسورية وهي المدينة التي حافظت على تقاليدها حتى بعد الفتح الإسلامي بفترة طويلة، فقد بقيت طقوس تموز حية إلى القرن العاشر الميلادي.
انتهى مقالنا هنا ويمكنك قراءة الجزء الأول من المقال من هنا
المصادر:
1- كريمر. صمويل، من ألواح سومر، ترجمة طه باقر، الوراق للنشر، 2010.
2- السواح. فراس، لغز عشتار- الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة، الطبعة الثامنة، دمشق، دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة، 2002.
3- عبد الواحد. فاضل، عشتار ومأساة تموز، الأهالي للطباعة والتوزيع، 1999.
4- هنا