الفلسفة وعلم الاجتماع > علم الاجتماع
صعوبات التواصل الاجتماعي لدى المصابين بالتوحّد
لقد واجهت عمليّة تعريف التوحّد، في إطارٍ علميٍ واجتماعيٍ على السواء، تطوّراً جذريّاً منذ طرحها لأول مرة في بداية القرن العشرين. يحاول المقال التالي أن يعرض بعضاً من أكثر صعوبات التواصل الاجتماعي شيوعاً لدى مصابيّ التوحّد، ولكن يجدر التنويه أن الأمثلة المطروحة قد لا تنطبق على جميع المصابين بالتوحّد، بل على السواد الأعظم منهم، حسب الدراسات التي يستند إليها المقال.
تشمل السّمات الأساسيّة للتوحد:
1- صعوباتٍ في التوّاصل مع الآخرين.
2- إصدار نبراتٍ صوتيّة و تعابير وجهيّة غريبة.
3- إظهار أنماط سلوكٍ هوسيّ.
4- القيام بحركاتٍ متكرّرة.
إلّا أنَّ ما يجعل فهم التوحّد أمراً معقّداً هو الاختلاف الواسع لأطيافه. حين تتمُّ مقارنة أفرادٍ ذوي تشخيصاتٍ متماثلة للتوحّد، فإننا نواجه شخصياتٍ مختلفة، ذات نقاط ضعفٍ وقوّةٍ متباينة. نتجَ عن هذه الإشكالية نوعٌ من الغموض الذي يلفّ المرض، حيث يظنُّ البعض أن التوحد مماثلٌ للتخلّف العقلي، بينما يعتقد آخرون وعلى النقيض تماماً، أن كل مصابٍ بالتوحّد يملك قدراتٍ عقليّة خارقة، في حين أن حقيقة الأمر تشير إلى أن النموذجين الاثنين موجودان ضمن أطياف التوحّد، إلّا أنهما ليسا إلّا حالاتٍ معيّنة ضمن أطيافٍ متعددة، ولا يصحُّ النظر إليهما كنموذجٍ تمثيليّ عامّ.
صعوبات التّواصل اللغوية:
التوحد هو اضطراب نموٍّ ذو منشئٍ عصبيّ، تُقاسُ شدّته من خلال أطيافٍ عديدةٍ، بدءاً بالمرضى البُكم والمصابين بالتخلّف، ونهايةً بأولئك الموهوبين والأذكياء. لا يتمكّن بعض الأطفال المصابين بدرجاتٍ عاليةٍ من التوحد من تعلم اللغة المحكيّة على الإطلاق، بينما يُظهر البعض الآخر شيئاً من التّأخر في اكتساب اللغة، مقارنةً بأقرانهم الغير المصابين. من خلال تواصلهم اللفظي، كثيراً ما يقوم الأطفال الذين يعانون من التوحد بتكرار كلماتٍ أو جملٍ سبق لهم أن التقطوها من حديث غيرهم أو من متابعة التلفاز، كما يقومون أحياناً بعكس بعض الضمائر، وخاصةً ضميري (أنا) و(أنت)، بالإضافة إلى استخدامهم مفرداتٍ جديدة من اختراعهم. إلا أنّ هذه الإشكالات اللغويّة غالباً ما تقل تدريجياً مع الوقت.
كما ويُظهِرُ الأطفال المصابون بالتوحد قدراتٍ اجتماعيةٍ تدلُّ على امتلاكهم لفهمٍ أساسيٍّ لأنفسهم وللآخرين. على سبيل المثال، فهم يستطيعون إدراك انعكاسهم في المرآة، كما يقومون بإبداء تعلّقهم بمن يهتمُّ بهم، ويستطيعون جذب اهتمام الآخرين عندما يرغبون بذلك. من ناحيةٍ أخرى، فإن الأطفال المصابين بالتوحد يُظهرون إشكاليةً في مشاركة تجاربهم مع طرفٍ آخر، فهم كثيراً ما يستخدمون في إشاراتهم الجسدية ما يُسمى بـ (protoimperative pointing) أي الإشارة إلى أداةٍ ما بهدف طلب إحضارها، بينما من النادر أن يقوموا بما يسمى (declarative pointing) وهو الإشارةُ إلى الأداة بهدف ابداء ملاحظةٍ أو تعليقٍ حولها.
صعوبات التواصل العاطفيّة:
يواجه المصابون بطيفٍ من أطياف التوحد وقتاً عصيباً في محاولتهم لاستيعاب المشاعر والتعبير عنها. يقوم مرضى التوحد بالتعبير عن المشاعر السلبيّة كالخوف والغصب والذّنب أكثر من المشاعر الإيجابيّة كالسعادة والاهتمام. كما يبدون صعوبةً باستيعاب العواطف الأكثر تعقيداً، كالفخر والإحراج، مما يدلُّ على أنهم أقلُّ درايةً بآراء ووجهات نظر الغير.
في الفترة الأخيرة، تداول الباحثون في مجال التوحد فكرةً تشيرُ إلى أن هذه النماذج السلوكيّة، وما يشابهها من أوجه الخلل الوظيفي، تتضمن عجزاً أساسيّاً عن تكوين "نظريّة العقل" “Theory of Mind”، أي العجز عن فهم مزاج ومشاعر الآخرين. وفقاً لهذه الفكرة، فإن وجود "عمى عقلي" “Mind-Blindness” يحول دون مقدرة المصابين بالتوحد على التقاط مشاعر، معتقدات أو رغبات الآخرين خلال التعامل معهم. تمّ قيّاس قدرات "نظريّة العقل" عبر عدّة مهامٍ تتطلّب من الأشخاص الخاضعين للتجربة أن يعزوا المقاصد والمعتقدات والحالات النفسية الأخرى المناسبة لأشخاص معيّنين، على أساس معرفةٍ مسبقةٍ بأولئك الأشخاص، أو استناداً على تعابيرهم الوجهيّة، نبرة صوتهم وأفعالهم. أظهرت النتائج ضعف أداء الأطفال والبالغين المصابين بالتوحّد في هذه التجربة، حيث تمكن فقط 20% من هؤلاء من النجاح في الدرجة الأولى من مهام "نظريّة العقل،" وهي تلك المتعلّقة بنَسب المعتقدات المناسبة للشخص المناسب.
صعوبات فهم الدلاليّة الاجتماعية الثقافيّة (Socio-Cultural Indexicality):
تعبّر الإشارات الدلاليّة (Indexical signs) عن مفهومٍ مرتبطٍ بهذه الإشارات في بيئةٍ معيّنة، فالدخان، مثلاً، يعبّر عن النار، ورسم حمامةٍ تحمل غصن زيتونٍ يرمزُ للسلام. إنَّ القدرة على فهم المعاني الدلاليّة مرتبطةٌ بإمكانيّة استيعاب المواقف الاجتماعيّة، أي أن استطاعة الأفراد أن يفهموا هذه الإشارات مرتبطةُ بدرايتهم بالصّلات التقليدية الموجودة بين أشياءٍ معينة في سياقٍ اجتماعيّ. يُعدُّ فهم الإشارات الدلاليّة واستخدامها مشكلةً لدى المصابين بالتوحد، حيث أن هذه الإشارات تعبّر عادةً وبشكلٍ غير مباشر عن ما يشعر به أو يقصدهُ الآخرون. تتوافق هذه الإشكاليّة مع عجز المرضى عن فهم ما يعنيه الآخرون من خلال إشاراتٍ إدراكيةٍ متعارفٌ على دلالتها الاجتماعيّة، كنظرات العيون والتعابير الوجهيّة.
تنطوي الدلاليّة الاجتماعيّة الثقافية على صعوبةٍ أخرى للمصابين بالتوحد، حيث أن بعض الإشارات الدلاليّة قد تملك أكثر من معنىً واحد، ويختلف ذلك بحسب السياق الذي ترد فيه. على سبيل المثال، تعبّر الابتسامةُ بشكلٍ عام عن الرضى والسعادة، بينما قد تشيرُ في مواقفٍ معينة إلى السخرية أو الاستهزاء. ترجع هذه المشكلة إلى صعوبة فهم الاستعارات والمعاني الغير الحرفية لدى المصابين بالتوحد.
دور المجتمع في التعامل مع التوحّد:
ترافق التطوّر العلمي في دراسة التوحّد تطوراً في النظرة الاجتماعية له و "الوصمة" التي ترافقه. يُعرفّ البروفيسور Oren Shtayermman، من معهد نيويورك للتكنولوجيا، الأشخاص الذين يحملون تلك الوصمة كما يلي: "أولئك الذين يحملون صفةً يراها الآخرون سلبيةً، غير مرغوبةٍ، أو غير مقبولة". ولطالما كان توصيف الأشخاص الذين يعانون من إعاقة نموٍّ أمراً مألوفاً، حيث أن الطبيعة البشرية غالباً ما تدفعنا للحكم على من يبدون مختلفين عنّا. تبدو سلبيّة هذه الأحكام القاسية على من يعانون من التوحّد بشكلٍ خاص لعجزهم في كثيرٍ من الأحيان عن التعبير عن أحساسيهم للآخرين. يشير البروفيسور Shtayermman إلى أن الشعور بالوحدة لدى المصابين بالتوحّد يرتبط بشكلٍ أساسيّ بمقدار الوصمة الاجتماعية التي يتلقونها من بيئتهم المحيطة، والذي ينعكس بدوره على تقييمهم لذواتهم. لا ينحصر أثر الوصمة على مصابيّ التوحّد فحسب، بل على المجتمع أيضاً، وذلك لإسهامها في التعتيم على حقائق المرض ونشر تعميماتٍ عشوائّيةٍ ومغلوطة. لذا، فإن ما نرجوه في اليوم العالمي للتوعية حول التوحّد هو استيعاب أهميّة دور المجتمع في التّعامل مع مرضى التوحد بتخليصهم من "وصمة المرض"، وذلك بإدراك دور الرّابط الإنسانيّ الذي يوحّدنا في تجاوز الاختلافات بيننا.
المصادر:
لمعرفة المزيد عن "نظرّية العقل،" يرجى متابعة مقالنا: