الطب > مقالات طبية
حتى خلايا الدماغ تتجدد، بل يمكنك التحكم بتجددها أيضًا!
لعقود طوال، منذ بدء دراسته للدماغ، ظل المجتمع العلمي يعتقد بأنّ النسيج العصبي يولد ليبقى، وألّا انقسامات في الخلايا العصبية بعد سن ال25. استمر ذلك لعام 1998 حيث ظهرت تلك الدراسة في مجلة نيتشر ‘Nature’ لتوثّق عمليّة "تخلّق النسيج العصبي" في دماغ الإنسان البالغ. استعملت هذه الدراسة مادة كيميائية تندمج مع الحمض النووي في الخلايا العصبية الجديدة، ولأسباب تتعلق بالسلامة الصحية لم تكرر تلك التجربة ثانيةً على البشر حتى عام 2013، حيث استغل بعض العلماء وجود ذرات الكربون المشع في الغلاف الجوي (نتجت هذه الذرات عن بعض التجارب النووية التي قام بها الإنسان سابقاً فوق سطح الأرض)، تأخذ النباتات هذا الكربون المشع وتستعمله في عمليّاتها الأيضيّة، وبالتالي فإن جسم الإنسان أيضًا يستعمله بعد تناول تلك النباتات، أو تدخله بعد استنشاق الكربون المشع أثناء التنفس. و باستعمال الطريقة المعروفة بمقارنة نسبة الكربون المشعc14للكربونc12 يمكننا حساب عمر كل خلية على حدة.
بفضل تجارب كهذه أصبحت عملية "تخلّق النسيج العصبي" حقيقةً علميةً يصعب الجدال فيها. لكنّ اكتشاف شيء كهذا يطرح أسئلةً أكثر مما يعطي من أجوبة. فلماذا يحتاج دماغنا للانقسام؟ كيف يحدث هذا الانقسام؟ وأين تتم هذه العملية تمامًا؟ وما الذي يتحكم بها؟ وما تطبيقات ذلك كله على الإنسان و على الأمراض التي تصيب نسيجه العصبي؟ هذه الأسئلة وغيرها جعلت عملية تخلق النسيج العصبي مادّةً مغريةً جداً للباحثين في علوم الأعصاب.
أجابت بعض الأبحاث إجابات جزئية عن بعض تلك الأسئلة، سأستعرض في هذا المقال جزءًا بسيطًا من تلك الأبحاث التي أجريت في العقد الأخير، و سأجعل طريقة العرض على هيئة أسئلة وأجوبة:
• أين، و كيف تتم هذه العملية؟
تستغرق عملية تخلق النسيج العصبي زمنًا ليس بالقصير (قرابة الشهر) حتى تكتمل، يتم خلاله تجهيز الخلية العصبية الجديدة للقيام بدورها المستقبلي، و أثناء هذا الوقت قد يموت الكثير من تلك الخلايا الوليدة.
كشفت الأبحاث (تستمر بالكشف) تفاصيل يصعب تناولها في مقال كهذا. ومن الجدير بالذكر أن هذه العمليّة تستمر طيلة حياة الإنسان بل إنها تجري بمعدّل عالٍ حتى في العقد الخامس من العمر.
بالنسبة لجزء "أين" من السؤال، فإن المنطقة الدماغيّة المسمّاة "الحصين" تعتبر أشهر المناطق التي نحن على علم بأن هذه العملية تجري فيها. اعتقد العلماء أنّ هذه المنطقة مسؤولةٌ عن عمليات تكوين الذاكرة طويلة المدى وأنّها تلعب دورا مهمًّا جدًا في عمليّة التعلّم. تقول الأبحاث بأن خلايا الحصين تتناقص عادةً مع التقدم في العمر، ولكن رغم ذلك، فإن 1400 خليةٍ عصبيةٍ جديدةٍ وسطياً تتكون هناك يوميًا، كما أن هناك مناطق دماغية أخرى تخضع لعمليات تخلق النسيج العصبي، منها: التلفيف المسنّن (Dentate gyrus) والبصلة الشمّيّة (Olfactory bulb) ومنطقة تحت البُطين (Subventricular zone)، والمنطقة الطبقه تحت الحبيبية (subgranular zone)
وقد تكشف الأبحاث القادمة عن مناطق أخرى.
• ما وظيفة عمليّة كهذه في الدماغ؟
لماذا تنقسم خلايا للدماغ؟ وهو الذي كان يُعتبر عدم انقسام خلاياه ميّزةً له، حتى لا نفقد ما تعلمناه وما حفظناه من ذكريات جميلة مع كل انقسام خلوي.. لا بل كيف يكون المكان الأبرز التي يتم فيه التخلق العصبي هو نفسه المكان الذي لطالما تم ربطه بالذاكرة طويلة المدى؟
لا توجد إجابة متاحة عن هذا السؤال، ولازال العلم يكتشف ويبحث عن أدوار محتملة حتى للخلايا الوليدة قبل أن تصبح خلية عصبية ناضجة.
• هل يمكننا التحكّم بهذه العمليّة؟ وما تطبيقاتها المحتملة في المجال الطبّي؟
تشير الأبحاث إلى أن النشاط البدني (الرياضيّ) قد يزيد عملية تخليق النسيج العصبي، وكذا يفعل التعقيد البيئي المحيط، أي أنّ تحفيزك واستخدامك المستمر لعقلك في التفكير والتعلّم قد يزيد منها أيضاً. كذلك تم ربط النشاط الجنسي بزيادة خلايا منطقة الحصين وخصوصاً العلاقات الجنسية طويلة المدى.
في المقابل فقد تم ربط الضغوط النفسية والكروب والتقدم بالسن وأمراضٍ كالاكتئاب بقلة حدوث الانقسامات في الخلايا العصبة في الحصين.
أما بالنسبة للمجال الطبّي، فإن الأبحاث تراقب معدل زيادة مضادّات الاكتئاب لهذه العمليّة وما إذا كان قياسها هدفاً يمكن من خلاله استنتاج تحسّن المريض، وبالتالي الاستدلال على فعاليّة الدواء.
يمكن أيضاً لهذه العمليّة -كأية عملية في جسمنا- أن تتم بشكل غير سليم. و قد تم ربط عملية التخليق العصبي بالصرع، أي أن هذه الخلايا الوليدة قد لا تقوم بوظيفتها بالشكل الصحيح مسببةً الصرع في بعض الحالات.
كما أن هناك أمراضاً أخرى قيد البحث لدراسة علاقتها بتخلق النسيج العصبي، منها مثلاً داء باركنسون، والألزهايمر.
ختامًا، لا زال هذا الموضوع مجالًا نشطًا جدًا في عالم الأبحاث والعلوم العصبيّة، وربّما لا يزال الطريق أمامنا طويلاً لنفهم هذه العمليّة بالشكل الكافي، لكن ما أريد التأكيد عليه هو قيمة هذا الموضوع، فمثل هذه الاكتشافات والأبحاث يساعدنا كثيراً في فهم الجزء الأعقد من الجسم البشري (إن لم يكن في الكون) كما قد تكون وسيلة لمعالجة أمراض تصيب هذا الجزء وحتى يومنا هذا يتعذر علاجها.
يمكنك مشاهدة بعض الفيديوات التي تخص الموضوع والتي تتيح خاصية الترجمة للعربية على الروابط التالية:
المراجع: