الطبيعة والعلوم البيئية > زراعة
التلوث الجيني؛ ماهيته وخطره
ما هو التلوث الجيني؟
يشير مصطلح التلوث الجيني لتدفق الجينات بين الكائنات الحية المعدّلة وراثياً والكائنات غير المعدّلة. كما أنها تستخدم لوصف تدفق الجينات بين الأنواع المدخلة غير الأصلية والمحلية فضلاً عن التدفق الجيني بين الأنواع المستأنسة والبرية. بعبارةٍ أخرى فإن التلوث الجيني ما هو إلا التدفق الجيني غير المرغوب فيه.
تعتبر الكائنات معدلةً وراثياً إذا تم تعديلها بإدراج جينٍ أو أكثر قادمٍ من أنواع مختلفة من نفس المملكة (المملكة الحيوانية أو النباتية) أو من مملكة مختلفة تماماً، بغية منح الكائن بعض الصفات المرغوبة والتي ما كانت لتحدث بشكل طبيعي لولا التعديل. ويكون التلوث هنا بقدرة الكائن المعدل على "تلويث" الصفات الوراثية الطبيعية للكائنات الغير معدلة؛ الأمر الذي يترتب عليه مضارُّ بيئيةٌ شتى أهمها منافسة الكائنات الطبيعية ودفعها للانقراض، ناهيك عن فقدان التنوع الجيني الطبيعي وانتشار سلالات مقاومةٍ للآفات والمبيدات بين النباتات العشبية الأمر الذي يشكل كابوساً للمزارعين.
قد تنتقل الجينات من المحاصيل أو الاسماك أو الاشجار المعدلة وراثياً إلى مجمعات جينات الأنواع ذات الصلة في البرية. وبمجرد تركها في الطبيعة تستطيع الكائنات الحية الجديدة التي تمت هندستها أو تعديلها وراثياً التفاعل مع أشكال الحياة الأخرى، فتعيد إنتاج نفسها، ونقل خصائصها والتحوير في استجابة الذرية الجديدة للمؤثرات البيئية. وفي كل مرة نوافق على نشر المزيد من هذه الكائنات نساهم في زيادة الضرر البيئي دون أن نعلم وبشكل نفقد معه السيطرة، فمعرفتنا بهذه الكائنات الجديدة تبقى محدودة. فقد اكتشفت العديد من الآثار السلبية للكائنات المعدلة فقط بعد فوات الأوان لذلك يدعو الكثيرون إلى عدم إطلاق هذه الكائنات في البيئة نظراً لمخاطرها غير المحتملة على الأنظمة البيئية وتهديدها للتنوع البيولوجي والحياة البرية وأشكال الزراعة المستدامة.
الضرر على المحاصيل:
يعتبر تنوع المحاصيل الجيني أمراً بالغ الأهمية لاستمرار استنباط أصناف جديدة مقاومة للآفات والأمراض، وتغير الظروف المناخية والبيئية، بالتالي فإن التنوع ضروري للأمن الغذائي العالمي، ويرتبط عدم وجود هذا التنوع بالعديد من الأوبئة التي أصابت المحاصيل الرئيسية في تاريخ البشرية. فمثلاً؛ هاجم مرض آفة أوراق الذرة محاصيل الذرة في الولايات المتحدة العام 1970 بسبب التماثل الجيني لجميع الأصناف المزروعة في جميع أنحاء الولايات المتحدة وسبَّبَ خسارةً قدرها 1 مليار دولار. ولو توفرت في حينها أنماطٌ وراثيةٌ عديدة (تنوع) من الذرة لوُجدت بعض الأصناف المقاومة أو المتحملة للمرض.
إذا لم يكن تهديد التنوع البيولوجي كافياً فيكفي أن تعلم أن مزارعي أمريكا الشمالية والجنوبية حيث تزرع معظم المحاصيل المعدلة وراثياً مجبرون على توقيع عقود مع شركات البذار، تخوّل هذه الشركات بمحاكمتهم إن هم احتفظوا بالبذور لاستعمالها العام القادم أو إن هم استخدموا مبيدات مغايرة لتلك التي تصنعها الشركات نفسها.
أمثلة على التلوث الجيني:
قام باحثون في جامعة بوردو في الولايات المتحدة باستخدام نماذج الحاسوب والبحوث التجريبية لدراسة الآثار المحتملة لإطلاق سراح عددٍ قليلٍ من الأسماك المعدّلة في البرية، وقدروا أن إطلاق 60 سمكة معدلة فقط ضمن بيئة تحوي 60 ألف سمكة يمكنها أن تؤدي لانقراض هذا المجمع السمكي في غضون 40 جيلاً؛ وذلك لما تتميز به المعدلة وراثياً من حجمٍ كبير وقابلية أكبر للتزاوج، لكن مع إعطاء ذرية أقل قابلية للحياة.
من التأثيرات السلبية أيضاً أن النباتات المعدلة وراثياً تصمم لتكون أقوى وأكثر قدرةً على منافسة الأعشاب لكن نشرها يجعل حبوب اللقاح الناتجة عنها تنتشر في البرية وتصل إلى الأعشاب غير المرغوب نموها والتي يمكنها بحكم القرابة أن تتلاقح مع المحصول المرغوب المعدل وراثياً مما ينتج ذريةً قوية يصعب القضاء عليها باستخدام وسائل مكافحة الاعشاب. مثلاً لا يوجد للبطاطا أقارب وراثية في البيئة البريطانية وعلى العكس يمكن لنبات الشلجم المعدل وراثياً oilseed rape أن يتبادل حبوب اللقاح مع الفجل البري واللفت البري منتجاً ذريةً غريبة قد لا نتنبأ بخواصها، أضف إلى ذلك أن نشرنا لمورثات مختارةٍ قوية يجعل من النباتات البرية التي تصلها هذه الجينات نباتات غازية تعصى على الأعداء الطبيعية من فطريات وأمراض.
يعد التلوث الجيني ظاهراً في النباتات أكثر من الحيوانات، ومن أمثلته في الحيوانات ما حصل عند محاولة تربية سمك السلمون الأطلسي المهجن مع ذلك البري.
لم لا نستطيع الاعتماد على الأبحاث للتيّقن قبل نشر الكائنات المعدلة؟
نحتاج إلى أبحاث مستقلة لتحديد ماهية الخطر المترتب على استخدام التعديل الوراثي فالمشكلة أخلاقية في الأساس كما أن جزءاً من المشكلة لا يحل بالعلم فالوسائل العلمية يمكن تطبيقها على أنواع معينة من الأسئلة من خلال بناء الفرضيات واختبارها بالملاحظة والتجربة فلا يمكن مثلاً القول أن السناجب الرمادية أو أن أحد المحاصيل المعدلة والمدخلة هي جيدة أو سيئة فالجواب يعتمد على وجهة نظرك.
إن انتقال الجينات عبر انتشار البذور في نظام بيئي، عادةً ما يبدأ ببطء ويظهر عائده تدريجياً إذا ما افترضنا انسياب العملية بسهولة ويسر، ولكشف وتفسير الأحداث النادرة للخلط الناتج، فإنه يلزم رسم سيناريو لكيفية انتقال الجينات وقياس تأثير هذا الانتقال على الكائنات الحية الموجودة في المكان ثم تضخيم الصورة وتعميمها لتشمل كل البيانات المتاحة. تــُــــجمع البذور من مناطق مختلفة ويقارن حمضها النووي بالنباتات الأم لإيجاد أي اختلاف في تسلسل الجينوم الأمر الذي قد يكون نتج عن دخول مورثات غريبة من أفراد عــُــدّلت وراثياً. يلزم ذلك كله الإلمام بالعلوم النباتية وعلم الوراثة والحيوان والأمراض إضافةً إلى الرياضيات والإحصاء. لهذا صــَــعـُــبَت دراسة أثر التلوث الوراثي.
يعتبر الكشف عن التلوث الجيني عموماً صعباً لأن الأنواع المهجنة المعنية غالباً ما تكون متشابهة شكلياً مع ذرياتها الممزوجة وراثياً كما وتتفاقم صعوبة تحديد الأجيال التي حصل فيها الخلط بسبب الـخلط الرجعي backcrossing الذي يعني حصول تهجين بين الفرد وأحد أبويه مما ينتج ذرية أقرب إلى ذلك الأب.
استخدم الحمض النووي لتوثيق التلوث الجيني للبط الرمادي والكلاب والذئاب وحيوان النمس والظربان ووجد أن فحص الاتساع الكبير للأنواع الغازية يجعل من الأفراد الملوثة وراثياً غير مرئية من منظور الحمض النووي مما يجعل هذا الحمض أداةً غير فعالة أحياناً لتقدير التلوث الجيني.
تجب الإشارة إلى أن الجينات المحورة قد تنتشر ضمن مجتمع الكائنات الغير محوّرة أو قد تضيع ببساطة مع مرور الوقت ويتوقف ذلك على عدة عوامل:
1- حجم مجتمع الكائنات غير المعدلة وراثياً.
2- مدى التهجين الحاصل بين المعدلة وغير المعدلة.
3- قدرة التزاوج بين المعدل وغير المعدل على إنتاج أجيال خصبة.
4- المزايا أو العيوب الممنوحة من قبل الكائنات الحية المعدلة وراثياً لتلك التي لم يتم تعديلها.
أخيراً يعتبر بعض الباحثين والخبراء البيئيين أن "التلوث الجيني" مصطلح مثير للجدل وغير لائق ويفضلون استخدام مصطلح "الاختلاط الجيني" ولا يرون فيه تلك الصورة السوداوية التي أوضحناها في هذا المقال للأسباب التالية:
1- قد لا تكون مجمعات الجينات النقية بالضرورة أفضل من المعدلة ويشكل انتشار المعدل ميزةً إيجابية في هذه الحالة.
2- اختلاط مجمعات الجينات قد لا يؤدي دائماً إلى انخفاض التنوع الجيني.
3- قد يؤدي التهجين والخلط إلى إنتاج ذريةٍ أفضل بيولوجياً من الآباء والأمهات.
ويبقى أن تشاركونا آرائكم.
المصادر: