التاريخ وعلم الآثار > حقائق تاريخية
الأباطرةُ اليابانيون (الجزء الثاني)... كارثة عدم وجود وريث ذكر وخلافة النساء
تناولنا في الجزء الأول موجزاً عن أصول السُلالة الإمبراطورية اليابانية وكيفية تمكنها خلال مئات السنين من توفير وريث للعرْش. ولكن دخلت اليابان عصراً جديداً من الحداثة فأصبحت العديد من المميزات التي يتصف بها الإمبراطور غير قابلة للتطبيق، فصعبت مسألة إيجاد الوريث حتى وصل الأمر إلى تهديد أعرق السلالات الحاكمة بالإبادة عن الوجود.
وفي مقالنا الآتي سنتحدثُ عن شُعاعِ الأمل الذي انبثقَ دونما توقعٍ ليجدَ أبواباً جديدةً لمعضلةِ الوريثِ الذكر...
نبدأ بوصولِ الإمبراطور الياباني الشهير ميجي لسدّةِ الحُكمِ ونجاحهِ بإعادةِ السلطة المركزية القوية لعرْشِ الإمبراطورية معلناً بداية العصر الجديد في اليابان عام 1867 عُرفَ لاحقاً باسم "استعراش ميجي". قامَ الإمبراطور بتوسيعِ العوائل الأميرية، فزادَ عشرَ عوائل جديدة لضمان استمرارية السُلالة. لكنّهُ من ناحيةٍ أخرى ألغى حقَ النساءِ في الوصول لسدّةِ الحكمِ كإمبراطورات معللاً ذلك بعدم خدمة المرأة في الجيش فهي لا تصلح لأن تكون قائدةً له.
الشكل (1): الأمير ميكاسا ابن الإمبراطور تايشو، من أعضاء العائلة الإمبراطورية الأطول عمراً في التّاريخ. التقطت الصورة عام 2012
دخلَ الطّبُّ الحديثُ بدايةَ القرن العشرين إلى القصر الإمبراطوري لأول مرة وسُمِحَ للأطباء بلمسِ ومعالجةِ أبناء الأباطرة الأطفال، فانخفضَ عددُ وفياتِ الرُّضعِ بشكلٍ كبير. لم يقبلِ الإمبراطور تايشو بتعددِ الزوجات والنَّوم مع المحظيات فتمَّ إلغاء هذا النظام فكان الإمبراطور الياباني الأولُ في التّاريخِ الذي حظى بزوجةٍ واحدةٍ، فعاشَ مع زوجته ساداكو التي تزوجها عام 1900 عمراً مديداً أنجبت خلاله أربعةَ أولادٍ أقوياءٍ عاشوا طويلاً، ومن أبناءهم الأمير ميكاسا الذي مازال حيّاً حتى الآن بعد أن تجاوز عمره المائة عام.
جاءَ احتلالُ قوات التحالفِ لليابان بعدَ الحربِ العالميةِ الثانيةِ بعدَ إلغاءِ أحقية النِّساء بالعرش وإلغاء تعدد الزوجات. كان اليابانيون يخشون أن يقومَ الأمريكيون بقتلِ الإمبراطور وإبادةِ السُلالةِ الحاكمةِ لكن قواتَ التحالفِ لم تفعل ذلك. جعلت قواتُ التحالفِ من اليابان بلداً ديمقراطياً لكنَّهم أبقوا على الإمبراطور على العرشِ بلا سلطات. قامت قواتُ التحالفِ بإلغاءِ الارستقراطية وبالتّالي أعلنت إنهاءَ جميع العوائلِ الأميريةِ الرديفةِ للخطِّ الإمبراطوري. نصَّ قانون البيتِ الإمبراطوري عام 1947 على إقصاءَ أمراءِ الفروعِ الإمبرطوريةِ من البيتِ الملكي من خلال اختزال لقب الأمير بأولاد الامبراطور وأحفاده من خط الذكور وزوجاتهم وبناتهم غير المتزوجات وعدم منحه لأبناء الأحفاد.
وفقاً لذلك في الثامن عشر من تشرين الأول 1947 جاءَ أحد عشر أميراً يمثلون إحدى عشرة عائلةً فرعيةً إمبراطوريةً إلى قصرِ الإمبراطورية لتوديعِ الإمبراطور هيروهيتو ليصبحوا هم وعائلاتهم بلا امتيازات ويصبحوا كعامة الناس.
أصبحت العائلةُ الإمبراطورية قليلةَ العددِ مع إنهاء تعدد الزوجات والعوائل الفرعية، وأصبح الإمبراطور وزوجتُه تحتَ ضغطٍ كبيرٍ لولادةِ الأبناء الذكور الذين سيضمنون استمرارَ الخط الإمبراطوري. رُزِقَ الإمبراطور الحالي اكيهيتو بولدين وبنتٍ واحدةٍ فبدى أنَّ السلالةَ الإمبراطورية في أمان. لم يمر وقتٌ طويلٌ حتى بدأت نُذر الخطرِ تطلُ برؤوسها، فبعدَ ولادة الابن الأصغر للإمبراطور عام 1965 وُلِدَ في العائلةِ الامبراطوريةِ ثماني بناتٍ دون ذكر واحد.
عدمُ ولادةِ ذكرٍ يعني عدم وجودِ وريثٍ للعرّش الإمبراطوري، فولي العهد الأمير ناروهيتو الذي لم يولد له سوى بنتٍ وحيدة. أما أخوه الأمير اكيشينو وُلِدت له بنتان اثنتان. الأمر الذي عظَّمَ الضغوطَ النفسيةَ على أبناءِ الإمبراطور لولادةِ خلفٍ ذكرٍ تداركاً لكارثةِ عدم وجود وريث، فهذا ما يهدد استمرارية السُلالة الإمبراطورية التي تمتدُ في جذورها الى أعماقِ التّاريخِ القديم.
في نهاية عام 2004 ومع وصول زوجة ولي العهد لعمر الواحد والأربعين وانخفاض فرصها في الإنجاب. قامَ رئيسُ الوزراء الياباني بتشكيلِ لجنةٍ مكونةٍ من عشر مستشارين مهمتهم تقديم تغييرات قانونية تضمن إيجاد حل للمعضلة وضمان استمرارية السلالة الإمبراطورية العريقة. عقدت اللجنةُ اجتماعاتها لمرة واحدة في الشهر مستمعةً لأراءِ الخبراء ولم تستمع لأراء أعضاء العائلة الامبراطورية. وبنهاية عام 2005 قدمت اللجنةُ تقريرَها. اعتمدَ التقريرُ على قواعد المساواة بين الجنسين وأراء الناس فرفضت أفكار تعدد الزوجات و العوائل الأميرية على اعتبارها غير ديموقراطية ومرفوضة من الشعب.
فأوصت بالسماحِ للنساءِ بأن يصبحوا أباطرة، هذه التوصية ليست ثورية بحد ذاتها باعتبار وجود أباطرة نساء في التّاريخ الياباني، لكن الثوري في الأمر هو أن التقريرَ أوصى بأن يكونَ الطفلُ البكرُ للإمبراطور أو الإمبراطورة "إمبراطوراً" بغض النظر عن جنسه سواء كان ذكراً أو أنثى وهذا الأمر غير مسبوق في التّاريخ. إضافة لذلك، دعت إلى أن يصبح زوج الأميرة الإمبراطورة أميراً إمبراطورياً حتى وإن كان من عامة الناس ولا تربطه صلة قربى بالعائلة.
هذا يعني أنه بزواج الإمبراطورة من شخص عامي فإن ابنهم سيكون إمبراطوراً دون اتصاله بسلسلة الذكور مع الأباطرة القدماء، كانت هذه التوصيات مخالفةً تماماً للأعرافِ التّاريخية لكنّها مدعومةٌ بآراءِ عامةِ اليابانيين ونظرتهم للمساواة بين الذكر والأنثى. وفقاً لهذه التوصيات أعدت الاستعدادات لإجراء التعديل على قانون البيت الإمبراطوري والتي ستجعل الأميرة إيكو ابنة ولي العهد الوحيدة خليفة لأبيها على عرش الامبراطورية وسيصبح أولادها فيما بعد أباطرة.
لم يسعد الجميع بهذا التقرير وتوصياته، فالمحافظون المهتمون بالتقاليد كانوا غاضبين جداً. تزعمَ معارضة توصيات اللجنة رابطة أضرحة الشنتو برفقة برلمانيين محافظين وناشطين عملوا جميعاً على كتابة عريضة نقد لتقرير اللجنة. قالَ المعارضون أن تقريرَ اللجنة لا يعمل على إنقاذ السُلالة الإمبراطورية بل أنه سيقتلها من خلال قطعِ السُلالة الذكورية.
اقترح المعارضون إعادة العمل بنظام العوائل الأميرية والتي ستدعم الخط الامبراطوري بوريث ذكر في حال عجز الخط الأساسي عن ذلك. المتحدث باسم المعارضين رفض الاخذ بجدلية أن الراي العام يدعم توصيات اللجنة وقال إن قلة المعرفة عند عامة الناس تجعلها غير قادرة على التفريق بين إمبراطورة امرأة وبين خط الوراثة النسائي. صرح المعارضون بأن السّلالة الإمبراطورية لا تخص الجيل الياباني الحالي فقط بل هي ملك لكل الأجيال اليابانية في الماضي والحاضر ولا يحق لهذا الجيل التلاعب بها.
لم يُسمح للإمبراطور بإعطاءِ رأيه على اعتبار أن المسألةَ سياسيةٌ، كما حرم كل أبناء العائلة الإمبراطورية من تقديم رأيهم. خرجَ شخصٌ واحدٌ من العائلة الإمبراطورية عن الصمت وهو الأمير توموهيتو فأعلنَ معارضته الشديدة لتوصيات اللجنة إنشاءَ خط وراثة عبرَ النساءِ وأوصى بأن يُعادَ العمل بتعدد الزوجات وإعادة العوائل الأميرية.
تصاعدت حدّةُ الخلافات في شباط 2006 فانبثق خبرٌ مفاجئ، وهو أن الأميرةَ كيكو زوجة الأمير اكيشينو البالغة من العمر تسعة وثلاثين عاماً تحمل في أحشائها طفلاً!. علقَ رئيس الوزراء مباشرة مشروع تغيير القانون الملكي وصار الجميعُ يترقبون جنس الطفل.
ولدت الأميرةُ في السادس من أيلول ٢٠٠٦ ذكراً سُمي بالأمير هيساهيتو، ليصبحَ الحفيد الذكر الوحيد للإمبراطور الحالي ويكون ترتيبه الثالث في الخلافة بعد عمه ولي العهد و والده. ليهبَّ اليابانيون مُلوحين بالعلمِ الوطني لتهنئةِ الإمبراطور. وبولادة هيساهيتو تمَّ إيقاف موضوع تعديل القانون الإمبراطوري مما أثلج قلوب المحافظين.
وتتعلق الآن جميع آمال استمرار السُلالة الإمبراطورية على هذا الطفل الذي سيحمل على أكتافه هدفَ بقاءِ السُلالة المستمرة من 2700 سنة.
الشكل (2): الأمير هيساهيتو الحفيد الذكر الوحيد للإمبراطور الحالي ولد عام 2006.
يمكنك قراءة الجزء الأول من المقال من هنا
المصادر:
.Ben-Ami Shillony، Japanese Monarchy: Past and Present، Louis Frieberg Chair in East Asian Studies، Hebrew University of Jerusalem