الطبيعة والعلوم البيئية > علم البيئة
التلوُّث البصريّ؛ مرآة تحضـُّـــر المدن
إذا ما نظرنا إلى البيئة من حولنا فإنّ الانطباع البصريّ هو أوّلُ ما نشعر به والذي يتكوّن عادةً من خليطٍ من المنشآت المشيَّدة المتداخِلة مع المحيط الطبيعي.
يُعرَّفُ التلوّث البصريّ بشكلٍ أدقّ على أنّه مجموعُ التشكيلات غير النظاميّة irregular formations كالإلقاء غير المُنظَّم للفضلات وتداخل اللوحات والكابلات والمباني البالية المتهالِكة والجدران المليئة بالكتابات وكلّ ما يحدّ قدرة المرء على التمتُّع بما يرى. وقد صار لفظُ التلوّث البصريّ يستخدَم مؤخراً ليدلّ على ما يتعارض مع الرفاهِ العامِّ وبالتالي مع نوعيّةِ حياة المجتمع وليدلّ أيضاً على كلِّ ما يقلِّل من الشكل الجماليّ والصحّة الاقتصاديّة والمدنيّة ويسبِّب النفور النفسيّ، الأمر الذي يؤثِّر على الصحّة العقليّة والجسديّة للسكّان. ويعدُّ الإهمالُ الإداريّ، الإفراط في الإعلانات، والأعمال التخريبيّة التشويهيّة من أهمّ مسبِّبات هذا النوع من التلوّث.
ليس الأمر بسيطاً:
بدايةً؛ لا يمكن إنكارُ حقيقةَ أنّ النظرَ إلى محيطٍ جميلِ المظهر يحفِّز البشر ويبعث في أرواحهم السكينة بينما يؤدّي القُبح إلى الانفعال. مع ذلك لا يزال الكثيرون يعتبرون البيئة البصريّة أقلّ أهميّةً ضمن نسيج المجتمع إذا ما قورِنت بالماء والهواء النظيفين مثلاً. صحيحٌ أنّ الطريقة التي يؤثّر فيها التلوّث البصريّ فينا تُعتبَر خفيَّة لكنّ ذلك لا يعني تجاهلَها أو إنكارَ وجودها.
يمكن تلخيص بعض الآثار السلبيّة للتلوّث البصري بـ:
- صعوبة إيجاد الأماكن والأشخاص وسط الفوضى والازدحام.
- الإلهاء أو تشتُّت الانتباه distraction والانفعال والاضّطرابات النفسيّة وتعب العين، فقد بيــّــنت تقارير منظّمة الصحّة العالميّة أنّ النّاس الذين تُطلُّ نوافذُهم على مناظرَ سيّئةٍ هم أكثرُ عرضةً بنسبة 40% للاكتئاب.
- فقدان الشعور بالنظافة والجمال وخسارة في جودة ونوعيّة حياة المقيمين.
- اعتياد الأطفال على القبح البصريّ حيث يرَون في هذا التلوّث حالةً طبيعيّةً لا تستلزم التصحيح ممّا يغيِّر من طابع المجتمع وهويّته الفريدة؛ الأمر الذي يسبِّبُ تدهوراً كاملاً في نمط الحياة.
- القضاء على تفرُّدِ الأماكن وخصوصيّتِها نظراً لتماثل مسبِّبات التلوّث البصريّ عموماً بين المناطق والمدن.
- الأثر السلبيّ على الاقتصاد سيّما السياحة، ففي عام 2012 ساهمت السياحة بـ 1.5 ترليون دولار في الناتج الاقتصاديّ للولايات المتحدة (2.8% من الناتج الإجماليّ) وبالتأكيد فإنَّ أحداً لا يرغبُ برؤية الكتابة على الجدران والقمامة والمباني المتهالكة خلال إجازته.
تتفاقمُ مسألةُ التلوُّث البصريّ سوءاً إذا ما أضفنا إليها ظاهرة النفايات المُلقاة هنا وهناك والّتي تُعدُّ من أحدِ مسبِّبات التلوّث البصريّ، الأمرَ الذي يعزِّزُ انتشارَ الأمراض والعدوى والحيوانات الضالّة، وإذا أضفنا مخاطرَ الظواهرِ الأخرى المتمثِّلة بإخفاء الإشارات الضوئيّة عن أعين السائقين بسبب اللوحات والأسلاك العشوائيّة ومخاطرَ تلامسِ هذه الأسلاك مع الماء.
التلوّث البصريّ في الدراسات:
لم يأخذ التلوّث البصريّ للأسف حقَّه من البحوث البيئيّة للمناطقِ الحضريّة، وغالباً ما يوصَف على أنّه قضيّةٌ سياسيّةٌ إذ يصعب قياسُه ويعتمد بشكلٍ كبيرٍ على ذوق الناس، كما أنّه يخضع لقوانينَ وتشريعاتٍ أقلَّ بكثير من مشاكل البيئة الأخرى كتلوّث الهواء والضجيج، فهو في النهاية قضيّة جمالية نسبيّة يشمل كلّ ما هو غير جذّاب بصريّاً وقد لا يرتبط دائماً بالأضرار البيئيّة.
وجدت دراساتٌ عديدةٌ أنَّ للبيئةِ الماديّة تأثيراً على مستويات الإجهاد والصحّة النفسيّة؛ منها ما أُجريَ في تكساس حيث تبيــّــنَ أنّ لدى الناس الذين يقودون سيّاراتِهم في شوارع المدينة مستوياتُ توتّرٍ أعلى بكثير من أولئك الذين يقودون عبر مناطقَ ريفيّةٍ وطبيعيّة.
تناولت دراسةٌ هنديّةٌ أيضاً منطقتَي Kolkata وBarrackpore في الهند لكثرة الملوّثات البصريّة فيهما خاصّةً انتشار اللوحات وقورِنَتا بالمناطق "الممتعة" بصريّاً حيث لوحِظ وجود كياسة اجتماعيّة وتغيُّر في سلوك الناس بينما تأثّر الحسّ المدنيّ وبالتالي الصحّة النفسيّة سلباً نتيجة الاستياء العميق الناتج عن انتشار النفايات واللوحات والهياكل العارية المرميّة في الزوايا أمام المدارس والمشافي والمؤسسات الاجتماعية وحتى المعابد.
في سياقٍ مُتَّصل، ناقشَ كتاب "التلوّث البصريّ؛ الإعلانات، اللافتات، وجودة البيئة" (مصدر 1) التلوّث البصريّ الناتجَ عن اللافتات التجارية في مراكز المدن التاريخيّة حيث وجد بأنَّ اللافتات التجاريّة التي تغطِّي الأبنية يمكن أن تــُـــقــَـــيّــمَ بشكلٍ إيجابيٍّ عندما تكون موضوعةً بشكلٍ مُرَتّب بغضِّ النظر عن التناقض اللونيّ وعدم تناسق الألوان مع الشارع بينما على العكس؛ تمّ تقييمُ التناقض اللونيّ والتعقيد في اللافتات كعاملٍ سلبيٍّ عندما كانت هذه اللافتات غير مرتبة. ولمّا كانت الإعلانات الطُرُقيّة واحدةً من أهمِّ سمات التلوُّث البصريّ فلا بدّ من التنويه إلى ما نقلته مجلة الإيكونوميست الاقتصادية الشهيرة عن محاولة مدينة ساوباولو São Paulo البرازيليّة منعَ الإعلانات الطرقيّة منعاً باتّاً حيث يــُــــعتقَدُ أنّ ذلك لن يدوم طويلاً حتى مع وجود رضى من السكّان البالغِ عددُهم 11 مليوناً وذلك ببساطة لأنّ البلديّات تعاني من نقصِ التمويل غالباً وسترضخ بسبب حاجتها للمُعلِنين عاجلاً أم آجلاً. مدنٌ أخرى استوحت من نجاح ساوباولو وبدأت باتّخاذ تدابيرَ للحدِّ من الإعلانات مثل Rio de Janeiro، Brasília وحتى Buenos Aires فلمن ستكون الغلبة في النهاية؟ للرغبة والذوق العام أم لقوّة المال؟! ...
يبقى أخيراً أن نشير إلى أنّ فنَّ الشوارعِ المُتمثِّل بالرسومات والكتابات على الجدران (street art) هو أمرٌ مُختلَفٌ عليه؛ فمنهم من يعتبره نوعاً من التلوّث البصريّ ووضعاً للفنِّ في غير مكانه، كما أنّه فِعلٌ مخالِفٌ للقانون لكونه يشكِّل استخداماً غير مُصرَّحٍ به لممتلكات الغير واستخدامها للرسم إضافةً إلى التشويه الذي تحدثه للشوارع، ومنهم من يرى فيه إرثاً وفنــّــاً وسمةً من سمات المجتمع والعصر وتمثيلاً لحريّة تعبير الشباب ورفضهم لبعض السياسات وطريقةً أفضل لتزيين الطرقات بوصفها تعبيراً عن مشاعرَ وأفكارٍ إنسانيّةٍ لا أسلوباً لإقناع البشر على اقتناء منتجٍ معيَّن كما تفعل الإعلانات.
ويبقى أن تشاركونا آراءكم.
صورة من لبنان
المصادر:
1
2
3
4