التعليم واللغات > اللغويات
اللغةُ والدماغ.. كيف تعالجُ أدمغتُنا العملياتِ اللغويةَ المختلفة.
لا شك أنّ اللغةَ من المميزاتِ العقليةِ المعقدةِ التي ينفردُ بها الإنسانُ عمّا سواه، فجميعُ العملياتِ المتعلقةِ باللغةِ من نطقٍ وسماعٍ وقراءةٍ وكتابةٍ، بالإضافةِ إلى الوظائفِ الإدراكيةِ المتعلقةِ بها كالفهمِ والاستعيابِ، جميعُها تعالَجُ في الدماغ. أجل الدماغ، تلك الآلةُ العجيبةُ والمدهشةُ التي تتحكمُ بجميعِ وظائفِ الأعضاءِ، وتقومُ بمعالجةِ وإصدارِ الإشاراتِ الحسيةِ كافةً، ومنها العمليات اللغوية المذكورة آنفا.
فكيف يعالج الدماغُ البشريُّ اللغةَ؟ وأين يعالجُها؟
ندعوك في الأسطر التاليةِ في إلى رحلةٍ في داخلِ قشرة الدماغ لمعرفةِ الجواب.
ظلَّ العلماءُ يدرسون العلاقةَ بين اللغةِ والكلامِ لقرابةِ 150 عاماً، ففي عام 1861 بينما كان أبراهام لينكولن يخطُّ خطابَ تولّيه منصب رئاسةِ الولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ، كان عالمُ الأعصابِ الفرنسيِّ بيير بول بروكا مشغولاً باكتشافِ أقسامِ الدماغِ المسؤولةِ عن خطابِ لينكولن هذا، أي أقسامُ الدماغِ التي تقف وراءَ عملياتِ اللغةِ والفهمِ وإصدارِ الكلامِ بالإضافةِ إلى التحكمِ بأعصابِ الوجه.
يقعُ ما نعرفه باسم "باحةُ بروكا" في مؤخرةِ التلفيفِ الجبهيِّ السفليِّ حيث تتشكلُ اللغةُ التعبيرية. كان بروكا أولَ من ربطَ مكانَ اللغةِ بنصفِ الدماغِ الأيسر، وهذا الكلامُ صحيحٌ و ينطبقُ على معظمِنا اليوم، ولكن لا يمكن أن ينطبقَ على جميعِ الأدمغةِ، فمن الممكن أن يقعَ مركزُ اللغةِ في الجانبِ الأيمنِ حيث تقعُ تلافيفُ اللغةِ في أدمغةِ حوالي 30 ٪ من الأشخاصِ الذين يعتمدون على اليدِ اليسرى، وحوالي 10 ٪ من أولئك الذين يستخدمون اليدَ اليمنى.
وفي نهايةِ باحةِ بروكا يقعُ جزءٌ مثلثٌ هو المسؤولُ عن استيعابِ معاني اللغة، فعندما تتوقفُ مفكراً في شيءٍ قاله شخصٌ ما كبيتٍ من الشعرِ أو جملةٍ مليئةٍ بالمصطلحات، فهذا الجزءُ المثلثُ في دماغِك هو المعنيُّ بهذا العملِ الكبير.
ولأن بروكا درسَ الكثيرَ من حالاتِ المرضى ممن يعانون من مشاكلَ نطقيةٍ مختلفةٍ سُميت مشكلةُ عسرِ الكلامِ باسمه (Broca's Aphasia) أو مشكلةُ عسرِ النطق، إذ يعاني المرضى عادةً من ضعفٍ أو شللٍ في الجانبِ الأيمنِ من الجسمِ وخاصةً في اليدِ والقدمِ نتيجةَ إصاباتٍ في القشرةِ الدماغيةِ المعزولةِ الوسطى (The Medial insular cortex) .
كان أحدُ مرضى بروكا عالماً فقدَ باحةَ بروكا عقبَ عملٍ جراحيٍّ، وعلى الرغمِ من أنه كان يعاني من بعضِ الصعوباتِ في النطقِ كعدمِ القدرةِ على تشكيلِ جملٍ مركبةٍ، إلا أنه استعادَ قدرتَه على الكلام، ما يعني أنّ هناكَ بعضَ المرونةِ العصبيةِ فيما يتعلق بمكانِ معالجةِ اللغةِ داخلَ الدماغ.
فبعد عشرِ سنواتٍ من اكتشافاتِ بروكا وجدَ عالمُ الأعصابِ الألمانيِّ كارل فيرنيكا (Carl Wernicke) أن تضرّرَ باحةِ بروكا ليس وحدَه الذي قد يؤدي إلى القصورِ في اللغة. ففي الفصِّ الصدغيِّ الخلفيِّ الأعلى The Superior Posterior Temporal Lobe)) تقعُ باحةُ فيرنيكا التي تعملُ تماماً كنظيرتِها باحةِ بروكا فيما يتعلق بالتعاملِ مع اللغةِ المستقبَلةِ أو اللغة التي نسمعها ونعالجها. وتربط الحزمةُ العصبيةُ المقوّسةُ (Arcuate Fasciculus ) باحةَ بروكا بباحةِ فيرنكا، فإذا ما تضررت هذه الحزمةُ سيجدُ المرءُ صعوبةً في ترديد ما يقولُه الآخرون.
كما كان فيرنكا أولَ من وضعَ نموذجاً عصبياً للغةِ حددَ فيه مكانَ العملياتِ اللغويةِ المختلفةِ كالنطقِ والاستيعابِ والإدراكِ والكتابةِ والقراءة، وقام نورمان غيشفيند بتعديلِ هذا النموذج عام 1965. وقد صيغ الكثيرُ من مواضيعِ علمِ الأعصابِ الحديثِ المتعلقةِ باللغةِ وفقاً لنموذجِ فيرنيكا- غيشفيند على الرغمِ من أنَّ هذا النموذجَ أصبحَ قديماً بعضَ الشيء في يومِنا هذا، فهو يقدمُ لمحةً عامةً ولكنه يحتوي على بعضِ المعلوماتِ غير الدقيقةِ مثل أنّ المعالجةَ اللغويةَ تتم بترتيبٍ تسلسليٍّ وليس بشكلٍ متزامنٍ في عدةِ أجزاءٍ من الدماغِ وهذا ما نعرفه اليوم.
وفي ستينياتِ القرنِ الماضي اكتشفَ غيشفيند أن للفصيصِ الجداريِّ الأدنى The Inferior Parietal Lobule)) علاقةٌ ما مهمةٌ في المعالجةِ اللغوية. واليوم بفضلِ تكنولوجيا تصويرِ الدماغِ المتطورةِ توصّلنا لمعرفةِ سبيلٍ آخرَ تسلكُه اللغةُ بين باحةِ بروكا وباحةِ فيرنيكا في الفصيصِ الجداريِّ الأدنى. وتُعنى هذه المنطقةُ في الدماغِ باكتسابِ اللغةِ والاستعمالِ الذهنيِّ المجردِ للغةِ، حيث نستجمعُ ونتعاملُ مع الكلماتِ المنطوقةِ والمكتوبة، ليس فهمُ معانيها وحسب بل ملاحظةُ كيف تبدو وكيف توظَّفُ في التركيبِ النحوي. ويساعدنا هذا الجزءُ من الدماغِ أيضاً على تصنيفِ الأشياءِ باستخدامِ محفزاتٍ سمعيةٍ وبصريةٍ وحسيةٍ، وقد يكون نضجُه المتأخرُ سبباً في تأخرِ تعلمِ الأطفالِ القراءةَ والكتابةَ حتى ما يقاربُ سن الخامسة.
ومن جهةٍ أخرى يلعبُ التلفيفُ المغزليُّ الواقع في الفصِّ الجبهيِّ أيضاً دوراً مثيراً في المعالجةِ اللغويةِ داخلَ الدماغ، فهذه المنطقةُ تساعدكَ على ملاحظةِ الكلماتِ وتصنيفِ الأشياءِ في فئاتٍ أخرى، وتلفُ هذه المنطقةِ يمكن أن يسببَ صعوبةً في ملاحظةِ الكلماتِ على الصفحة.
واليوم ما زلنا نتعلمُ أشياءً جديدةً عن آليةِ عملِ اللغة، فعلى سبيلِ المثال: نعتقدُ أنّ الشقّ الأيمنَ من الدماغِ يؤدي دورَه المخصصَ في الوظائفِ اللغويةِ بما في ذلك القدرةُ على استيعابِ التعابيرِ المجازيةِ وأنماطِ النبرِ والتنغيمِ وأوزانِ الموسيقا الشعرية.
فبينما اعتدنا على القولِ بأنَّ الأشخاصَ الذين يتحدثون مع الإشاراتِ يستخدمون نموذجاً من معالجةِ اللغةِ داخلَ الدماغِ يعتمدُ أكثر على الإيحاءاتِ البصرية، ها نحن اليوم نعتقدُ أن اللغةَ تحدثً على نحوٍ مماثلٍ باستخدامِ أشكالٍ منطوقةٍ وغير منطوقة. فكما اتضح أنّ أدمغةَ المصابين بالصمِ تعملُ بذاتِ الطريقةِ التي تعمل بها أدمغةُ نظرائِهم السليمين تبينَ أن ذاتَ الأجزاءِ من الدماغِ تنشطُ أثناءَ الكلامِ سواءً باستخدامِ الإشاراتِ أم بدونها. وقد ظهرَ هذا البحثُ في إصدارِ عام 2007 من مجلةِ نيرو إيمج، ولكن في شباط من العام 2011 قدمت كاري ايموري عالمةُ لغةِ الكلامِ والبروفسور في جامعةِ سان دييغو بحثاً لدى الجمعيةِ الأمريكيةِ لتقدمِ العلمِ في سان دييغو وضحت فيه أنّ الدماغَ يستجيبُ للإشارةِ الإيمائيةِ الصامتةِ تماماً كما يستجيبُ للكلماتِ المنطوقة، وهذا "يفترض أنّ الدماغَ منظمٌ لاستقبالِ اللغةِ بكافةِ أشكالِها وليس للكلام فقط." كما تقول إيموري.
المصدر: