كتاب > روايات ومقالات
مراجعة رواية (النّمرُ الأبيض): سبعُ رسائلَ عن الحريَّة
لطالما سمعْنا عن أولئك الذين وصفهم (كولن ويلسون) باللامنتمين، أولئك الذين لا يجدون أنفسَهم في المكانِ الذي خُلِقوا ونشَؤُوا فيه، أو الذين يعملون في مجالٍ لا يوائمُهم ولمْ يفكّروا فيه من قبلُ مثلًا، و مَن يدري؟ قد نعيشُ نحن هذه الحالةَ ونغدو لامنتمين!
كثيرًا ما تناولَ الكُتّابُ في رواياتِهم هذا الحالةَ النفسية؛ فكان بطلُ الروايةِ يجسِّدُ هذا النَّموذجَ من الأشخاص، وإن اختلفت الأحوالُ والظروفُ والمجتمعات. ونجدُ أنفسَنا هنا في هذه الرواية، أمامَ شخصيةٍ جاءت مِن بلدِ المليارِ نَسَمة؛ الهند.
يروي بطلُ الروايةِ (بالرام) سيرةَ حياتِه في سبعِ رسائلَ إلكترونيةٍ يرسلُها إلى رئيسِ الوزراءِ الصينيِّ الذي قرَّرَ زيارةَ الهندِ قريبًا، وقد شكّلتْ هذه الرسائلُ فصولَ الرواية. في الصفحاتِ الأولى، نقابِلُ البطلَ مقاولًا هنديًّا يمتلكُ شركةَ سيّاراتِ أجرةٍ ضخمة، وله مكتبٌ خاصٌّ في مدينةِ (بانغلور) الهنديّة، يُديرُ فيه أعمالَه، لكنْ ما يلبثُ أنْ يبدأَ بالحديثِ عن ماضيه في مناطقِ (الظَّلام)، وكيف وصلَ به الأمرُ إلى أن يكون قاتلًا فارًّا من العدالة، ورجلَ أعمالٍ غنيًّا.
عاشَ (بالرام) طفولتَه في مناطقِ (الظلام)، التي سُميّت كذلك نسبةً إلى الظُّلْمِ والجهلِ والمرضِ المُتَفَشّي فيها؛ الذي كان بسببِ التهميشِ الحكوميِّ من جهة، والاستغلالِ الذي يمارسُه الإقْطاعيّون مِن جهةٍ أخرى. منذُ طفولتِه لم يشعرْ (بالرام) بانتمائِه لتلك المناطق؛ فظلَّ يحلُمُ بالنورِ والارتقاءِ في السُّلَّمِ الاجتماعيّ، حتى استطاعَ لاحقًا أن يعملَ سائقًا لرجلِ أعمالٍ كبيرٍ يُقيمُ في مدينةِ (دِلْهي). ومن هنا كانت خطوتُه الأولى في الخروجِ من مناطقِ الفسادِ والظلام، إلى مدينةٍ تتَّسِمُ بالحضارةِ والعُمران. أَبْهَرَه كلُّ شيءٍ هناك، وأراد بشدَّة الهروبَ من سياسةِ القطيع، أو كما يقول: «الخروجَ من قُنِّ الدجاج»؛ ليكونَ رجلًا حرًّا، رفَضَ سياسةَ القطيعِ التي يعيشُها معظمُ الشعبِ الهنديِّ الفقير، الذي لا يغضبُ لحالِه ولا يثورُ لها.
هوَ يؤمنُ بأنه كالنَّمِرِ الأبيض؛ نادرٌ ولا يولَدُ منه إلا فردٌ واحدٌ خلالَ عَشَراتِ الأعوام. فقرَّر أن يكْسِرَ قُنَّ الدجاجِ ذاك الذي يقيِّدُ حرّيّتَه؛ فغضِبَ لعبوديَّتِه وثارَ على سيّدِه، وقد اتّخذتْ ثورتُه هذه أسلوبَ القتلِ والسَّرِقة.
وهنا يعطي الكاتبُ ثِقَلًا لهذا الفعل، وكأنّه يشيرُ إلى أنّ حالةَ التمرُّدِ قد بلغتْ ذروتَها؛ إذْ إنّ فعلَ السَّرِقةِ أمرٌ نادرُ الحدوثِ في بلدٍ اعتادَ على الظلمِ والجوع، حتى باتَ أمرًا عاديًّا، ونَسَقَ حياةٍ مألوفًا لا يتطلَّبُ الثورةَ ضدَّه!
أمامَ هذه الحادثة، نجدُ أنفسَنا أمامَ سؤالٍ وجوديٍّ مهمّ:
إلى أيِّ درجةٍ من الهاويةِ يمكنُ لحالةِ (اللاانتماء) أنْ تقودَ الإنسانَ إليها؟ بل هل يُعَدُّ فعلُ القتلِ مبرِّرًا في حالٍ مشابهةٍ لحالِ (بالرام)، وهو شخصٌ كُلُّ ما أرادَه أنْ يكْسرَ قيودَ الظلم، ويحيا بحريتِه وكرامتِه، في مكانٍ يليقُ بما طَمَحَ إليه وحَلُمَ به؟ ومتى كان القتلُ وسيلةً لبلوغِ تلك الغاية؟!
للكاتبِ أسلوبُ سردٍ مميّزٌ يَشُدُّك لإكمالِ صفحاتِ هذا الكتاب؛ فقد استطاع بطريقةٍ تهكُّميَّةٍ لاذعةٍ تسليطَ الضوءِ على الواقعِ الاجتماعيِّ والعَقَدِيِّ والسياسيِّ الفاسدِ في الهند، والتفاوتِ الطبقيِّ الكبيرِ فيها. فالهندُ التي اتصفتْ يومًا بتعدُّدِ الطبقاتِ الاجتماعية؛ لم تبقَ فيها إلا طبقتان: إمّا أثرياءُ غارقون في رفاهِيَتِهم في بؤرةِ النُّور، أو فقراءُ لا يعلمون هل سيحصُلون على قوتِ يومِهم أم لا.
ما يُميّزُ كاتبَ هذهِ الروايةِ أنَّه لم يعِشْ يومًا حياةَ الفقرِ التي يصوِّرُها بمهارةٍ عاليةٍ في روايتِه. فقد وُلد (آرافيند آديغا) عامَ 1974، وعاش طفولةً مُرَفَّهَةً إلى حدٍّ ما في الهند، والْتحقَ بجامعةِ كولومبيا في نيويورك بالولاياتِ المتحدةِ الأميركية، ليدرُسَ آدابَ اللغةِ الإنجليزية، وعمل بعدَها صحفيًّا في الصحافةِ الماليَّة. ولكنّهُ ولأسلوبِه السَّرْدِيِّ المُتقَن؛ استطاعَ أن يرسمَ للقارئِ ببراعةٍ صورةً ناطقةً للحياةِ في الجانبِ المظلمِ البائسِ مِن الهند.
معلوماتُ الكتاب:
صدر لأولِ مرةٍ عامَ 2008.
سنةُ الترجمة: 2010.
ترجمة: سهيل نجم.
دارُ النشر: مؤسسةُ محمدِ بنِ راشدٍ آلِ مكتوم.
عددُ الصفحات: 316.
الرقمُ الدَّوْلي: 9789948446.
الاسمُ باللغةِ الإنجليزية: The White Tiger.