الهندسة والآليات > الترانزستورات
الترانزستورات ج 25 ترانزستور تأثير التداخل الكمّي.
ترانزستور تأثير التداخل الكمّي ... الاستفادة من ميكانيك الكم لتحويل الجزيئات إلى ترانزستورات.
من منا لم يسمع عن الترانزستورات وعن كلفتها وانتشارها في عالم الإلكترونيات؟ تابعنا في كثير من المقالات السابقة الكثير عن أنواعها وطريقة استخدامها وصناعتها وكلفة هذه الصناعة. لكن هل يستطيع العلماء استخدام الجزيئات وتحويلها إلى ترانزستورات؟ دعونا نتابع هذا المقال:
كانت الترانزستورات في بداية تصنيعها كبيرةً جداً مقارنةً مع حجمها الآن، فبعد أن كانت تقاس أبعادها برتبة السنتيمتر في منتصف القرن العشرين، استطاعت التكنولوجيا المتنامية يوماً بعد يوم من تصغيرها حتى أصبحت تقاس برتبة النانومتر، هذا التصغير الهائل لحجم الترانزستورات لا يستدعي التقليلَ من كفاءتها أو ميزاتها، بل على العكس من ذلك. [1]
تعمل هذه الترانزستورات النانوية بنفس كفاءة الترنزستورات الكبيرة وبآلية مشابهة تماماً، فهي تقوم بتبديل حالة التيار بين الوصل والقطع عن طريق رفع وخفض حاجر الجهد الكهربائي "electrical potential barrier gate". ولكن لسوء الحظ تستهلك هذه الطريقة الكثير من الطاقة الكهربائية في عملية التبديل، وتولد حرارة عالية نسبياً. [1]
في الحقيقة، لم تكن هذه المشاكل ذات أهمية كبيرة في العقود السابقة، حيث أن التقنيات المتاحة آنذاك لم تكن تتيح للمصنعين إمكانية تضمين المليارات من الترانزستورات على شريحة واحدة كما هو الحال اليوم مع الشركات الإلكترونية الكُبرى، جَعَلَ هذا التكديس المتنامي للترانزستورات على نفس الشريحة من مسألة الكثافة العالية للطاقة "power density"، وتبديد الحرارة العالية الناتجة عن آلية عمل هذه الترانزستورات تصبح مسألة مُلِّحة. حيث تحولت هذه المشاكل وغيرها إلى عقبة حقيقة نحو المزيد من التصغير للأجهزة الإلكترونية. [1]
قام العلماء بمحاولات للاستفادة من الطبيعة الموجية للإلكترون للتحكم بتدفق التيار، حيث يتم التعامل مع الأجهزة التي تعتمد في عملها على التداخل الموجي وفقاً للظاهرة الكمومية التي تدعى "Aharanov–Bohm effect"، لكن لا يمكن تطبيق هذه الطريقة مع الأجهزة الجزيئية الصغيرة، فبالنسبة لجهاز بمساحة 1 نانومتر مربع سيتطلب تحريض مغناطيسي تتجاوز قيمته 600 تسلا وذلك لتحقيق إزاحة في الطور بمقدار 1 راديان، وكذلك الأمر بالنسبة للأجهزة التي تعتمد على الإزاحة الطورية الكهروستاتيكية فإنها ستحتاج لفولتية قد لا تتناسب مع الاستقرار البنيوي "structural stability" للجهاز. [2]
بعد ما ورد سابقاً فكّر العلماء بابتكار ترانزستورات تعمل بآلية جديدة، ترانزستورات مختلفة ببنيتها وآلية تبديلها، وقد تمكنوا من بلوغ هذا المقصد مستفيدين من بعض مفاهيم نظرية ميكانيك الكم، استطاعوا بناء ترانزستور بخصائص فريدة من نوعها سيكون لها دور هام في التغلب على تلك العقبات آنفة الذكر. وقد أطلقوا على هذه الترانزستورات الجديدة اسم ترانزستورات تأثير التداخل الكمي "the Quantum Interference Effect Transistor" أو اختصاراً "QuIET".
الحل المقترح في هذه الترانزستورات هو استغلال التداخل الكمي بين مسارات الإلكترونات الناجم عن التناظر الدقيق في جزيئات الأنولينات العطرية أحادية الحلقة "monocyclic aromatic annulenes"، هذا التناظر العالي يتيح لترنزستور "QuIET" امتلاك عقدة تَدَاخُل في المنتصف، حيث تؤمن هذه العقدة الوصول لحالة القطع. وبتطبيق فك الترابط "Decoherence" أو التبعثر المرن "elastic scattering" يمكن التحكم بهذه العقدة بهدف تمرير التيار. [2]
آلية التبديل:
تكمن الفكرة الأساسية وراء هذه الترانزستورات في الاستفادة من الطبيعية الموجية للإلكترون (إلكترون كموجة) بدلاً من الطبيعة الجسيمية له (إلكترون كجسيم)، بحيث يمكن التحكم بتدفق التيار على المقياس النانوي اعتماداً على الخصائص الموجية له. وبدلاً من التعامل مع المواد النصف ناقلة كما في الترانزستورات التقليدية، يعتمد هذا الترانزستور الجديد على جزيء أحادي يمتاز بتناظر جزيئي عالٍ كأحد جزيئات الأنولينات العطرية أحادية الحلقة مثل البنزين. [2]
وقبل الخوض في آلية التبديل التفصيلية التي تعتمدها هذه الترانزستورات لا بد من شرح بسيط لمفهوم التداخل الموجي، يمكن تعريف التداخل الموجي بأنه مرور موجة ما من خلال موجة أخرى، وقد يكون هذا التداخل بنَّاء أو هدَّام، يكون تداخل بنّاء عندما تمر قمة إحدى الموجتين من خلال قمة الموجة الأخرى، ويكون تداخل هدّام عندما تمر قمة إحدى الموجتين من خلال قعر الموجة الأُخرى. وقد أدرك العلماء أنه يمكن إيقاف مرور التيار في دارة ما إذا أمكن التحكم بانتشار الموجات الإلكترونية بحيث يلغي كل منها الآخر محققة ظاهرة التداخل الموجي الهدَّام. ويعتبر التناظر الدقيق للجزيئات الأحادية المستخدمة مناسب بشكل فريد للاستفادة من التأثيرات الكمومية المطلوبة لتصنيع أجهزة إلكترونية أصغر حجماً وأكثر فاعلية. [1]
يعتقد الدكتور " Charles A. Stafford" وهو أستاذ مساعد في قسم الفيزياء في جامعة أريزونا وأحد العاملين على هذا المشروع بأن النقل الكمومي من خلال جزيئة بنزين واحدة مع سلكين معدنين مربوطين بمواقع متقاربة "para positions" هو موضوع البحث النظري والتجريبي واسع النطاق، ومع ذلك فإن ترانزستور "QuIET" المعتمد على جزيئة البنزين يتطلب أن يكون المنبع والمصرف متصلين في الوضعيات العليا "meta positions" أيضاً. كما يوضح الشكل (1) أدناه: [1]
نلاحظ في الشكل (1) ترانزستور تأثير التداخل الكمي المبني على جزيئة البنزين ثنائي الثيول، الكرات الخضراء في الصورة تمثيل لذرات للكربون، والكرات الأرجوانية تمثيل لذرات الهيدروجين والصفراء لذرات الكبريت والذهبية لذرات الذهب. في حالة القطع "Off" يعيق التداخل الموجي الهدَّام تدفق التيار بين المنبع في أسفل الصورة والمصرف على يمين الصورة. ويتم السماح بتدفق التيار عن طريق كبح التداخل الموجي الهدَّام باستخدام عملية فك الترابط "Decoherence" المطبقة من رأس مجهر المسح النفقي "STM" في أعلى يسار الصورة والذي يمثل القطب الثالث (البوابة).
النموذج النظري:
يتألف "QuIET" من جزيء في المركز، وقطبين (سلكين معدنين) متصلين كيميائياً مع الجزيء المركزي، بالإضافة لقطب ثالث يمكن أن يقترن مع الجزيء المركزي إما سعوياً أو عن طريق الأنفاق الكمومية "tunneling"، يمكن التعبير عن هذا النظام وفقاً للمعادلة التالية حسب عامل هاميلتونيان "Hamiltonian" وهو عامل يستخدم في ميكانيك الكم للتعبير عن الطاقة الكلية لنظام ما ويرمز له بالحرف"H":
H= H_mol + H_leads + H_tun
يعبّر الحد الأول عن قيمة عامل هاميلتونيان للجزيء ذو إلكترونات π المستخدم، ويعبّر الحد الثاني عن مجموع قيم عامل هاميلتونيان لكل قطب على حدى، كما يعبّر الحد الثالث عن قيمة عامل هاميلتونيان للنفق الكمومي بين الجزيء والأقطاب. حيث يٌعتبر القطب الأول هو المنبع والثاني هو المصرف والثالث هو البوابة أو قطب التحكم. [2]
تحديات التصنيع:
يواجه العلماء تحديات كبيرة في عملهم على تصنيع ترانزستورات "QuIET"، حيث تمكن الخبراء من ربط سلكين (قطبين) إلى جزيء أحادي صغير، لكنهم يواجهون صعوبة حقيقة في وصل السلك (القطب) الثالث. بالإضافة إلى ذلك يُعتبر التحدي الأكبر تجاوز التعامل مع تفاعلات إلكترون-إلكترون اعتماداً على نظرية "Mean field theory" وهي دراسة سلوك النماذج العشوائية المُعَّقدة من خلال دراسة نموذج أبسط، وذلك لأن هذه التفاعلات تكون قوية بشكل خاص في الأجهزة متناهية الصغر بسبب السعة الكهربائية الصغيرة جداً لهذه الأجهزة. [2]
التطبيقات العملية المحتملة:
عند بناء ترانزستور "QuIET" اعتماداً على جزيء البنزين، سيكون هناك مساريين مباشرين للإلكترونات يحققان انزياح في الطور بمقدار π، ولكن يمكن لأي جزيء أنولي عطري أحادي الحلقة أن يحل محل البنزين، وبالنسبة للجزيئات الأكبر من البنزين فإن المساريين المباشرين للإلكترونات يمكن أن يكون فرق الطور بينهما مختلف عن π، قد يكون 3π أو 5π.... الخ. [2]
واعتماداً على هذه الفكرة في الجزيئات الكبيرة يمكن ترتيب الأقطاب بشكل مختلف عما هي عليه في جزيئة البنزين. على سبيل المثال، يظهر الشكل (2) إمكانيات التموضع المختلفة لكل من المنبع والمصرف، في الحالة الأولى يكون فرق الطور المرافق هو π وفي الحالة الثانية يكون فرق الطور 3π وفي الحالة الثالثة يكون فرق الطور 5π وفي الحالة الرابعة يكون فرق الطور 7π.
وكطريقة أخرى لزيادة الحجم الفعال للجزيء، وللتغلب على مشكلة القطب الثالث، يمكن استعمال أسلاك جزيئية تربط بين مركز الحلقة والأقطاب كما هو مبين في الشكل (3) و الشكل (4)، يمكن أن تكون هذه الأسلاك أحد مركبات البوليمرات الموصلة مثل البولي ثيوفين "polythiophene" أو البولي أنيلين "polyaniline" اللذين يعتبران مثاليين للقيام بهذه المهمة.
شكل رقم (3): يُظْهِر هذا الشكل ترانزستورات "QuIET" ذات جزيئة البنزين، تُعبّر الحروف"A،B،C" عن البدائل الذرية التي يمكن استخدامها لتحقيق الوصل بين الجزيء والأقطاب.
شكل رقم (4): تجسيد محتمل لدمج ترانزستور "QuIET" مع مجموعة من الدارات الكهربائية التقليدية على شريحة إلكترونية ما، يتم ربط كلاً من المنبع (1) والمصرف (2) مع الحلقة العطرية المركزية عن طريق البوليمرات الناقلة، ويتم وصل البوابة (3) كهروستاتيكياً إلى طرف جزيئيات هيدروكربونية غير مشبعة.
تتميز ترانزستورات "QuIET" بعدد من النقاط المهمة اذا ما تمت مقارنتها بالترانزستورات التقليدية وهي:
1- حل مشكلة الحرارة العالية الناتجة عن آلية التبديل التقليدية (رفع وخفض حاجز الطاقة)، حيث أن آلية التبديل المستخدمة في ترانزستور "QuIET" تُعتبر أكثر برودة بكثير من تلك المستخدمة في الترانزستورات الأخرى مثل ترانستور التأثير الحقلي الذي يتواجد بالملايين في الحواسيب.
2- حل مشكلة الحساسية للاضطرابات الصغيرة والتي تعاني منها معظم الأجهزة النانوية، حيث أن هذه الأجهزة النانوية تعمل على مجال رنين ضيق يجعل من الضروري ضبط نقطة تشغيل كل جهاز موجود على الشريحة الإلكترونية بدقة جيدة، مما قد يتطلب مراقبة ذرية دقيقة للبيئة المحيطة بكل جهاز مزروع على الشريحة على حدى. أما ترانزستورات "QuIET" فهي تعمل ضمن مجال رنين واسع، مما يجعلها مناسبة تماماً للاضطرابات الكهربائية الصغيرة.
3- لا تعاني ترانزستورات "QuIET" من القيود البيئية التي تعاني منها ترانزستورات التأثير الحقلي المعتمدة في تصنيعها على أنصاف النواقل، مما قد يجعلها قادرة على العمل حتى في البيئات المائية أو داخل جسم الكائن الحي.
4- يمكن باستخدام هذه الترانزستورات تصنيع معالجات صغرية أصغر حجماً وأسرع استجابةً وأكثر كفاءة. [1]
دعونا ننتظر قادم الأيام وما سيقدمه لنا العلم في مجال تطوير الصناعات الإلكترونية وكل ما هو خير وفائدة لكافة المجتمعات.
المصادر:
[1] هنا
[2] هنا