كتاب > الكتب الأدبية والفكرية
مراجعة كتاب (لا أخلاقية العنف عند جان بودريار): القيم في مواجهة سطوة العنف
تقدِّم لنا الكاتبة (سوزان إدريس) في هذا الكتاب تحليلًا لآراء الفيلسوف الفرنسي (جان بودري) عن العنف ودوافعه وأشكاله ودور الإعلام والتكنولوجيا في تطوير تأثيره في الثقافات والشعوب جميعها.
فيبدأ الكتاب بتعريف العنف، فهو اصطلاحًا استعمالٌ غير مشروع للقوة وسلوك لاعقلاني يقوم على إقصاء الآخر وعدم الاعتراف بوجوده.
ولا يقتصر العنف على العنف المادي؛ كالعنف الجسدي والعنف ضد المرأة وضد الطفل، بل يوجد العنف المعنوي الذي يُحدِث ضررًا نفسيًّا غير مباشر يمتد أثره فترات أطول في النفس البشرية، بالإضافة إلى عنف التكنولوجيا وعنف الإعلام وغيرها من أنواع العنف التي سوف نتحدث عنها تحدُّثًا أوسع في مقالنا هذا.
ولفهم ما هي دوافع العنف تلقي الكاتبة (سوزان إدريس) في كتابها هذا نظرة تاريخية عن رأي الفلاسفة في العنف وتبريراته فنرى أنَّ الساحة الفكرية تنقسم إلى قسمين: فالفيلسوف والسياسي (نيكولو مكيافيلي) صاحب كتاب (الأمير هنا) يشرِّع العنف ويبرر استخدامه في سبيل تحقيق المصلحة العامة وفق مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، وهذا يُعدُّ أمرًا غير أخلاقي، ولكنَّ الكاتبة ترى أنَّ الأخلاق سلاح قليل الحيلة لمن يريد العنف؛ لأنَّ كثيرًا ممن يستخدمون العنف يجدون تبريرات أخلاقية لأفعالهم، فتقتبس من الفيلسوف (جان بودريار) قوله: كثير من الأعمال العنيفة ارتُكِبت باسم المبادئ الوطنية الأخلاقية.
فيما نجد الفيلسوف (أرسطو) يتخذ موقفًا معاديًا للعنف بأشكاله كلها ويرفضه تحت أية ذريعة كانت، وفي متابعة بحث الفلاسفة عن أسباب العنف يرى بعضهم أنَّه سلوكٌ مُكتسب تدعمه البيئة والظروف.
فتاريخ الإنسان ما هو إلا سلسلة من العنف والتمردات على الوضع المعيشي له، فيما يرى البعض الآخر أنَّه ناتج عن أزمة انحلال القيم؛ فبغياب القيم والأخلاق شُرِّع العنف.
وقد يراودنا السؤال الآتي.. طالما أنَّ العنف موجود في كل مكان وكل عصر، فما الذي جعله يشكِّل أزمة حقيقية في القرن العشرين؟
ويجيب الكتاب على هذا التساؤل بأنَّ عصرنا هذا هو عصر الأزمات المتعددة؛ المالية والسياسية والبيئية والاجتماعية والأهم الأزمة الأخلاقية التي محورها الأساسي هيمنةُ وسائل الإعلام وسيطرة الاتجاهات الاستهلاكية التي تعمل على تبنِّي قيم وافدة غربية قد تكون سلبية؛ إذ لم تُقيَّم من الناحية الفكرية لإيجاد رؤية لها تنسجم مع حضارة المجتمع.
بالإضافة إلى أنَّ تغلغل العولمة (والتي تعبِّر عن مسار أحادي يدمج الثقافات كلها مع بعضها ويفرض التبيعة والنمطية على الشعوب جميعها ويلغي خصوصيتها) ألغى القيم الخاصة بالمجتمعات في مسارات حياتنا جميعها.
وبمحاولة إلغاء خصوصية الشعوب سوف تتولد اتجاهات فكرية معارضة للعولمة في كل دقيقة.
فيقول (جان بودريار): “من هنا يكون العنف نتيجة للعولمة التي خلقت عدوها، وبدأت بالصراع معه من أجل ردعه ومنعه عن مقاومتها، وتسببت بحروب أربكت علاقة الثقافات بقيمها، ودعتها إلى اللجوء إلى منطق الثأر والانتقام من ثقافة تدعي العالمية”.
وعليه يستنتج القارئ ما يريد الكتاب إيصاله بأنَّ الإرهاب ليس صنيع ذاته بل هو وليد العولمة، فإنَّ أحداث 11 أيلول وتدمير برجي التجارة العالميين لم يكن -حسب رأي (جان)- إلا رد فعل الشعوب المضطهدة على الهيمنة الأميركية.. فلجأت إلى إذلالها في عقر دارها؛ ولذا يرى الفيلسوف الفرنسي (جان ) أنَّ الإرهاب غير مرتبط بالأيديولوجيات والأديان على عكس ما تحاول أميركا تصويره، فهو يلقي على عاتق النظام الأحادي القطب المسؤولية في خلق الإرهاب وفي تفجير برجي التجارة العالميين، فيقول:
“إلى حد ما هم الذين ارتكبوا الفعلة لكنَّنا نحن الذين أردناها”.
ونتابع مقالنا في معرفة ما علاقة العنف بالسلطة ووسائل الإعلام..
لقد اتخذت الولايات المتحدة الأميركية من أحداث أيلول ذريعةً لاستكمال مصالحها في المنطقة كما فعلت في أفغانستان والعراق فقد حرصت على ربط الإرهاب بحركات أصولية إسلامية؛ مما خلق فكرة الإسلاموفوبيا، ولكنَّ الكتاب يرى أنَّ مصطلح محاربة الإرهاب الذي تتبناه أميركا هو مصطلح فضفاض وغير دقيق؛ لأنَّه غير مرتبط بإقليم معين أو بأيديولوجيا معينة وهكذا يصعب تنفيذه .. فالولايات المتحدة لا تريد أن تقدم دليلًا على ما تدعيه بأنَّ الإرهاب متعلق بالأديان أو الأيديولويجات؛ لأنَّها تريد أن تبقى قادرةً على التدخل في شؤون المنطقة متى أرادت ذلك.
وبذلك نرى أنَّ الأهمية الكبرى للكتاب تتجلى في تبيان مشكلة العنف النابعة من واقعنا الذي تتصارع فيه الأمم وتتصادم فيه الأفكار، فقد باتت الأخلاق مطلبًا ملحًّا لعلاج هذه المشكلة.
معلومات الكتاب:
د.إدريس، سوزان (2018). لا أخلاقية العنف عند جان بودريار. (ط.1). لبنان-بيروت: منشورات الاختلاف. عدد الصفحات 270