الأمير. ليست المحافظة على الدول بالكلام.
كتاب >>>> الكتب الأدبية والفكرية
ليسَ هناكَ على الغالبِ من كتابٍ مختصرٍ وفريد، وُضعَ في ذلكَ الزمنِ الغابرِ يحملُ القارئَ المعاصرَ على مواجهةِ العديدِ من المشاكلِ الأساسيّةِ التي تمتازُ بها الحياةُ السياسيّةُ كهذا الكتاب. وتتلخصُ هذهِ المشاكلُ فيما يجبُ أن تكونَ عليه علاقاتُ المواطنِ مع الدولة، وعلاقاتُ الدولِ بعضها البعض، وفي مصادرِ سلطةِ الدولةِ وحدودها إنْ وجدت. بالإضافةِ إلى ما فيهِ من اختصارٍ، فإنَّ كتابَ الأميرِ يشتملُ على خصائصَ أسلوبيّةٍ تجعلُ قراءتُه سهلةً وممتعة. كما يتميزُ مكيافللي بأنهُ لا يستخدم الكلماتِ في إخفاءِ حقيقة أفكاره، فهو واضحٌ في معانيه كلُّ الوضوح، وقد يكونُ في النتائجِ التي يصلُ إليها أحياناً، ما لا يستساغ، أو يُقبل، لكنها على درجةٍ كبيرةٍ مِن البيانِ والجلاءِ بحيث تشبهُ اللكمةَ التي يتلقاها الإنسان على أنفه، ومنَ الضروريِّ أن نذكرَ بأنَّ مكيافللي يضعُ أمامَ القرّاء بعضَ المشاكلِ الرعويّةِ والسياسةِ والنفوذِ السياسيِّ في محورٍ جديدٍ وكثير الوضوح. فكتابُ (الأمير) ليسَ بالمقالِ الجامدِ بل هو كتيبٌ مختصرٌ يحتاجُ إليهِ كلُّ مَن ينشدُ القوةَ السياسيّة أو يعملُ على سيادتها، وهكذا فقد درسهُ واستخدمهُ الكثير من الملوكِ والوزراءِ الذّينَ اختلفوا في طبائِعهم وأهدافهم، من أمثالِ ريشيليو وكريستينا ملكةُ السويد وفريدريك ملكُ بروسيا، وبسمارك وكليمنصو، واتسعت هذهِ الدائرةُ في القرنِ العشرين اتساعاً ملحوظاً، فشملت أولئكَ الذّينَ ثاروا على أنظمةِ الحكمِ القديمة، فقد اختاره موسوليني في أيامِ تلمذتهِ موضوعاً لأطروحتهِ التي قدّمها للدكتوراه. وكان هتلر يضعُ هذا الكتاب على مقربةٍ من سريرهِ فيقرأُ فيه كلَّ ليلةٍ قبلَ أنْ ينام. ولا يدهشنا قولُ ماكس ليرنر في مقدمتهِ لكتابِ (أحاديث) أنَّ لينين وستالين أيضاً، قد تتلمذا على أفكارِ مكيافللي. ولا يضمُ كتابُ الأمير جميعَ آراء مكيافللي السياسيّة، إذ اقتصرَ على بحثِ أكثرِ مشاكلَ إيطاليا حدّة، وإلى الحديثِ عن تخلَفُها في التنظيمِ السياسيِّ والقوّةِ العسكرية، عن الدولِ المجاورةِ لها، كإسبانيا وفرنسا، وكانَ هذا الحديثُ موجهاً إلى الأمراءِ، من أمثالِ أسرةِ مديشي الذّين ظهرَ اسمهم في إهداءِ الكتاب. وإذا كانَ هناكَ مِن بطلٍ لكتابِ الأمير، فهو قيصر بورجيا، الذَي تحتلُ أعمالهُ ومآثرهُ الفصلَ السابعِ من الكتاب. وكانَّ مكيافللي يرى في وجودِ دولةٍ دينيَةٍ في قلبِ إيطاليا عقبةً في طريقِ وحدتِها السياسيّة. وكانَ القيصرُ بتأييدٍ من البابا إلكسندر السادس، يعملُ على إقامةِ دولةٍ سياسيّةٍ قويّةٍ في هذهِ المنطقة، وكانَ مكيافللي يرى في هذهِ الدولةِ نواةً يمكنُ لإيطاليا الجديدةِ الالتفافَ حولها. وتطلّع مكيافللي بعدَ أن رأى أسرةَ مديشي تزوّدُ الكنيسةَ بعددٍ من البابواتِ والكرادلة، إلى استمرارِ هذه العمليةِ بنجاحٍ أكبر، عن طريقِ تعاونِ النفوذِ الذّي تمتلكهُ الأسرة في كلِّ من فلورنسا وروما. يتألفُ كتابُ الأمير من 26 فصلاً اختلفت عناوينها ومحتواها السياسي وسنقومُ بعرضِ أهمّ هذه العناوين من خلالِ شرحٍ مبسطٍ لأهمِ الأفكارِ والبنودِ والآراءِ التي احتوتها هذه العناوين: * "أنواع الحكومات المختلفة والطريقةِ التي نشأت بها": يرى مكيافللي بأنهُ لا تخرج جميعَ الحكومات والممالك التي حكمت الجنس البشري في الماضي أو التي تتولى حكمهُ الآن، عن أن تكونَ في أحدِ شكلين، إما الشكل الجمهوري أو الشكل الملكي. والملكيات إما أن تكون وراثيةً، بحيث ينتقلُ الحكمُ فيها عبرَ السنواتِ الطويلة، ضمنَ أفرادِ الأسرةِ الواحدة، أو حديثةَ العهدِ والنشوء. والملكياتُ الناشئةِ حديثاً إما أن تكون جديدةً في كلِّ شيء، أو تكون ملحقات جديدة، أتبعت بممتلكاتِ الأميرِ الوراثي الذّي ضمّها إلى ممتلكاته، كما هي الحالة في مملكةِ نابولي، التي يحكمُها ملكُ اسبانيا. ومثلُ هذه الممتلكاتِ المكتسبة، إما أن تكون آلفةً لهذا النوع من الحكم، لأنها كانت خاضعةً لأميرٍ آخر، أو أنها كانت دولاً حرّة، وقد أتبعت بممتلكاتِ الأميرِ عن طريقِ قوّتهِ العسكريّةِ الخاصة، أو قوّة الآخرين، أو عن طريقِ انتقالِها إليهِ نتيجة حسنِ الطالعِ أو الكفاءة الخاصة. * "الملكيات الوراثية": في المقامِ الأول، تكونُ مهمةُ الاحتفاظِ بالملكياتِ الوراثية، حيثُ تعوّدَ الناسُ على أسرةٍ حاكمةٍ، أقلَ صعوبةً من الاحتفاظِ بالملكياتِ الجديدةِ إذ يكفي في هذه ألا يضطرَ المرءُ إلا الاعتداء على المألوفاتِ الوراثية، وأن يكيّفَ نفسهُ لظروفٍ لم يكن يتوقعها. ويستطيعُ الأميرُ بهذه الطريقة، إذا كان مثابراً ودؤوباً على العمل، أن يحتفظَ دائماَ بمركزه إلا إذا طرأتْ قوى استثنائيةٌ وبالغةُ الشدّةِ فطردته منه، ولكنه حتى لو طُرد ففي إمكانه عندما تصيبُ الأميرُ الجديدُ أيّةَ لوثةٍ مهما ضؤلت من سوءِ الطالع، أن يستعيدَ مركزه ومكانته. يرى مكيافللي بأنَّ الصعوبات تواجهُ دائماً الملكيّة الجديدة، إذ عندما تكونُ الدولةُ من الناحية الأولى ليست بالناشئةِ حديثاً وإنما بالعضو في دولةٍ مختلطة، فإنَّ الاضطرابات فيها تنبعُ أولاً من الصعوبةِ الطبيعية التي تقومُ عادةً في جميعِ الممالكِ الجديدة، لأن الناس يقبلون على تغيير حكامهم بمحض الرغبةِ والإرادة، آملين في تحسينِ أحوالهم وهذه العقيدةُ تدفعُ بهم إلى الثورة على حكامهم الذّين خدعوهم، لا سيما إذا أثبتتِ التجاربُ أنهم قد انتقلوا من حالةٍ سيئةٍ إلى حالةٍ أسوأ منها. وهذه نتيجةٌ حتميةٌ لسببٍ بديهيٍّ آخرَ وهو ما يلحقهُ جنودُ الحاكمِ الجديدِ من أذى محتوم بالرعايا في المملكة التي وصلَ الأميرُ إلى حكمها، أو ما يؤدي إليه احتلالهُ من عددٍ لا حصرَ له من الأضرارِ والإساءات. وهكذا فإنكَ ستجدُ أعداءكَ دائماً، أولئك الذّين تضرروا من جرّاءَ احتلالكَ لبلادهم، وليسَ في مكنتكَ الاحتفاظ بصداقةِ أولئكَ الذّينَ ساعدوكَ في الحصولِ على هذه الممتلكاتِ الجديدة، لأنكَ لن تستطيعَ تحقيقَ جميعَ آمالهم، كما أنكَ ستكونُ عاجزاً عن مقابلتهم بالشدّةَ والصرامةَ بالنظرَ لما تشعرُ به من دَينٍ لهم عليك. ولهذهِ الأسبابِ كلُّها، مهما كانت جيوشكَ بالغةَ القوّةِ فإنكَ ستحتاجُ كلُّ الحاجةِ إلى عطفِ السكانِ لتتمكنَ من احتلالِ بلادهم. * "حكم المدن أو المماليك التي كانت قبل احتلالها تعيش في ظل قوانينها الخاصة": يوضحُ مكيافللي بأنهُ عندما تكونُ الدولُ التي تم احتلالها، قد ألفت الحريّة في ظلِ قوانينها الخاصة، فهناكَ ثلاثةُ سبلٍ للاحتفاظِ بهذهِ الدول. أما السبيلُ الأولُ فهو تجريدها من كلِّ شيء، وأما الثاني فهو أن يذهبَ الأميرُ المُحتَل ليقيمَ في ربوعها وأما الثالثُ والأخيرُ، فهو أن يسمحَ لأهلها بالعيشِ في ظلِ قوانينهم مكتفياً بتناولِ الجزيةِ منهم، وخالقاً فيها حكومةً تعتمدُ على الأقليةِ المواليةِ للحاكم. وتدركُ مثلُ هذهِ الحكومة التي خلقها الأمير أنها تعتمدُ في بقائِها على صداقتهِ وحمايته، ولذا فهي تبذلُ بالغَ الجهدِ للحفاظِ عليهما، يضافُ إلى هذا، أنَّ المدينةَ التي ألفتِ الحرية، لا تذعن بسهولةٍ إلا إلى أبنائها ومواطنيها، وهذا هو السبيلُ الصحيحُ للاحتفاظِ بها. * "الممالك التي يتمُ احتلالها بمساعدةِ الآخرين أو بمساعدةِ الحظ": قد لا يجدُ هؤلاء الذّينَ يرتقونَ من صفوفِ الشعبِ إلى مرتبةِ الإمارةِ بفضلِ حسنِ الطالعِ صعوبةً كبيرةً في هذا الارتقاء ولكنهم يجدونَ صعوبةً كبيرةً في المحافظةِ على مراكزهم. وفي طريقِ الارتقاء، لا يواجهونَ أيّةَ مصاعب، لأنهم يحلّقونَ فوقها، لكن متاعبهم سرعانَ ما تنبثقُ عندما تتوطدُ أقدامهم. وتنطبقُ هذه الحالةُ على أولئكَ الذّينَ يبتاعونَ الدولَ بالمال، أو يحصلونَ عليها عن طريقِ كرم من يمنحهم إياها كما وقعَ في اليونان وفي المدنِ الايونية والهليسبونت، عندما خلقَ داريوس أمراءَ في مثلِ هذه الأماكن، ليحافظوا عليها باسمه، حمايةً لأمجادهِ وسلامته. كما تنطبقُ أيضاً على أولئكَ الأباطرة، الذّينَ ارتقوا من صفوفِ الشعبِ عن طريقِ رشوةِ الجيشِ ويعتمدُ مثلُ هؤلاء اعتماداً كلياً على حسنِ نيّةِ أولئكَ الذّينَ رفعوا من قدرهم، وعلى حسنِ طالعهم، وكلا الأمرينِ يفتقرُ إلى الاستقرارِ والدوام. وهم لا يعرفونَ كيفَ يحافظونَ على مراكزهم، وليسوا في وضعِ يُمكّنهم من هذا الحفاظ وما لم يكن ذلكَ الإنسان الذّي قضى طيلةَ حياته يعيشُ كإنسانٍ عاديٍّ، عبقرياً كبيراً، فإنه لن يتمكنَ من معرفةِ طريقةِ الحكم، يضافُ إلى هذا أنه سيعجزُ عن المحافظةِ على وضعه، لأنهُ لا يملكُ قوّات صديقة ومخلصة له. * "الأشكال المختلفة للمتطوعة وجنود المرتزقة": إنَّ القوّات المسلحة التي يعتمدُ عليها الأمير في الدفاعِ عن مملكته إما أن تكونَ خاصةً به أو مرتزقةً أو رديفاً أو مزيجاً. والمرتزقةُ والمرتزقُ والرديفُ قوّاتٌ غيرَ مجدية، بل ينطوي وجودها على الخطورة، وإذا اعتمدَ عليها أحدُ الأمراءِ في دعمِ دولته، فلن يشعرَ قط بالاستقرارِ أو الطمأنينة، لأنَّ هذه القوّات كثيراً ما تكونُ مجزأةً وطموحة، لا تعرفُ النظامَ ولا تحفظُ العهود والمواثيق، تتظاهرُ بالشجاعةِ أمامَ الأصدقاء وتتصفُ بالجبنِ أمامَ الأعداء. والأميرُ الذّي يعتمدُ على مثلِ هذه القوّات، قد يؤجلُ دمارهُ المحتوم، إذ يؤجلُ الهجومَ الذّي سيتعرضُ له. وهكذا فإنَّ الأميرَ أيامَ السلمِ للنهبِ من المرتزقة وفي أيامِ الحربِ للنهبِ من العدو. ولعل العاملُ في هذا، هو افتقارُ المرتزقةِ إلى الولاءِ أو إلى أيِّ حافزٍ آخرَ من الحبِ يحملهم على الصمودِ في ميدانِ القتال، باستثناءِ الراتبِ الذّي يتقاضونه، وهو أقلَ شأناً من أن يحملهم على التضحيةِ بأرواحهم في سبيلك. وفي الختام لا يسعني القولُ سوى أنَّ كتابَ الأمير، هو حجرُ الأساسِ في بناءِ علمِ السياسةِ الحديثِ وأنهُ لا يزالُ صالحاً للنقاشِ والاستخدامِ إلى يومنا هذا فهو كتابٌ سابقٌ لعصره ومستشرفٌ إلى ما آلت إليه سياساتِ الدولِ في وقتنا الحالي. معلومات الكتاب: - الكتاب: الأمير. - المؤلف: نيقولو مكيافللي. - تعليق: بنيتو موسوليني. - مقدمة: كريستيان غاوس. - تعريب: خيري حماد. - تعقيب: فاروق سعد. - دار النشر: منشورات دار الآفاق، بيروت. - الطبعة: الطبعة السابعة. - عام النشر: 1975.
* "الملكيات المختلطة":