من الجهاز الهضميِّ إلى الدماغ: رحلة تطورِ داءِ باركنسون!
الطب >>>> علوم عصبية وطب نفسي
رُعاشٌ، بُطءُ الحركةِ، صلابةُ الجذعِ والأطرافِ، اضطرابُ التوازنِ والتنسيقِ الحركيِّ، نعم نحن أمام داءِ باركنسون.. مرضٌ عصبيٌّ مزمنٌ مترقٍّ ينتج عن خسارة الخلايا العصبيةِ الدماغيةِ المسؤولةِ عن إنتاجِ الدوبامين¹. وعلى الرغمِ من كونِه قد عُدَّ مرضاً مجهولَ السببِ إلا أننا اليومَ سنستعرض دراساتٍ أظهرت دورَ الجهازِ الهضميِّ في بَدءِ تطورِه، ولِما لذلك من دورٍ في إمكانية كشفِه الباكرِ وتطويرِ علاجاتٍ أكثرَ نوعية.
قامت دراسةٌ دينماركيةٌ تُعَدّ الأكبرَ في هذا المجالِ بتحرّي العلاقةِ ما بين قَطْعِ العصبِ المُبهمِ وخطرِ تطورِ داءِ باركنسون، حيث كان من الشائعِ ما بين عامَي 1970-1995 معالجةُ القَرحةِ الهضميةِ بقَطعِ المُبهَم². وكان يجرى ذلك عادةً إمّا بقطعٍ جِذْعِيٍّ كاملٍ للمبهَم truncal vagotomy أو بأسلوبٍ أكثرَ انتقائيةً حيث يتم إيذاءُ الأعصابِ المسؤولةِ عن تعصيب قاعِ وجسمِ المعدةِ super-selective vagotomy . وفقاً للدراسة السابقةِ فقد وُجدَ أنّ خطرَ تطورِ المرضِ عند أولئك الخاضعين للقَطعِ الجذعيِّ والبالغِ عددُهم 5339 كان يقلُّ عن خطرِ المجموعةِ الثانيةِ المؤلَّفةِ من 5870 مريضاً خضع للانتقائي. وعند المقارنة مع مجموعِ السكانِ فإنّ انخفاضَ خطورةِ حدوثِ باركنسون ظهر فقط في فئةِ القَطعِ الجذعي. أخيراً، فقد أظهر البحثُ أن احتمالَ تطورِ المرضِ بعد مُضِيِّ 20 عاماً على القطعِ الجِّذْعِيِّ للمبهَمِ كان أقلَّ بنسبة 50% . وبذلك فإن نتائجَ هذا البحثِ تُوافِق الفرضيةَ القائلةَ بأنّ عمليةَ تطورِ داءِ باركنسون تعتمد بشكل رئيسٍ على كون العصبِ المبهَمِ سليماً بشكل جزئيٍّ أو كلّيٍّ ليكون قادراً على نقل الإصابةِ إلى الدماغ. وتضيف الدكتورة اليزبيث سيفنسون Elizabeth Svensson –دكتور في قسم الوبائيات السريرية في جامعة آرهوس الدنمارك Aarhus University- أن مشكلةَ الإمساكِ عند مرضى باركنسون غالباً ما تبدأ قبل وضعِ التشخيصِ بعدة سنواتٍ، والذي قد يُعتبر مؤشراً باكراً للعلاقة ما بين الآليّةِ المَرضيةِ العصبيةِ والآليةِ المَعِدِيةِ المِعويةِ المرتبطةِ بالعصب المبهم.
ولكننا قد نتسأل الآن ما هي الأحداثُ التي تتطور في الأمعاءِ قبل انتقالِها إلى الدماغ؟
لقد أصبح من المعروف أن المُشعِرَ المَرَضيَّ الرئيسَ لداء باركنسون هو وجودُ بروتينِ ألفا سينوكليين a-Synuclein في الخلايا الدماغيةِ، وفي عام 2012 أظهرت دراستان أنّ تراكمَ هذا البروتينِ يبدأ أولاً في الخلايا العصبيةِ التابعةِ لجدار الأمعاءِ لتنتقلَ بعد ذلك إلى غيرِها من الخلايا العصبيةِ ثم تصل أخيراً إلى الجزءِ السفليِّ من جذعِ الدماغِ ومنه تتابع صعودَها وصولاً إلى المادةِ السوداءِ (وهي منطقةٌ من الدماغِ تحتوي على الخلايا العصبيةِ المنتِجةِ للدوبامين) وعندها فقط تبدأ التظاهراتُ المرضيةُ لداء باركنسون. في الدراسة الأولى، خضع 9 مرضى مصابين بالشكل الباكرِ الخفيفِ من داءِ باركنسون لتنظيرِ القولونِ السينيِّ ثم دُرستْ العيناتُ المجموعةُ بالطريقة المناعيةِ النسيجيّةِ الكيميائيةِ لتحرّي وجودِ كلٍّ من الألفا سينوكليين و 3-نيتوتيروزين (مُشعِر الشدة التأكسدية 3)، حيث وُجدَ أن الصفيحةَ المخصوصةَ (إحدى الطبقاتِ النسيجيةِ لجدارِ الأمعاء) تُبدي تلويناً للألفا سينوكليين مقابلَ غيابِ هذا التلوينِ في المجموعات الشاهدةِ (التي تتكوّن من أصحاءَ ومصابين بأفاتِ الأمعاءِ الالتهابية) كما أنّ إيجابيةَ التلوين للنيتروتيروزين في عددٍ من العيّناتِ من كلا المجموعتَين تُظهر أهميةَ الشدةِ التأكسديةِ³ في تحريض تعبيرِ الألفا سينوكليين، إلا أنّها لا تُعَدّ العاملَ الوحيدَ المسؤولَ عن ظهورِ هذا التعبير.
وبالانتقال إلى الدراسةِ الثانيةِ، فقد اعتمد الباحثون فيها على جمع عيّناتٍ من القولون من 3 مصابين بداء باركنسون، غير أنّ تنظيرَ القولون جرى قبل 2-5 سنواتٍ من تطورِ أولى أعراضِ المرضِ الحركية. ومن جديدٍ فقد أظهرت هذه العيناتُ إيجابيةَ بروتين ألفا سينوكليين. ما يثير الاهتمامَ في نتائج هذا البحثِ أنّه وللمرة الأولى يجري إثباتُ وجودِ هذا البروتينِ قبل بَدءِ تظاهراتِ المرض. وبذلك فإنّ تنظيرَ القولون المُجرى عادةً كاختبارِ مسحٍ لسرطان القولونِ قد يفيد أيضاً في توقّعِ مَن سيطوّر داءَ باركنسون، وبالنتيجة فإنّ الكشفَ الباكرَ عن المرض قبل حصولِ خسارةٍ كبيرةٍ في العصبونات الدوبامينية قد يساعدُ في عملية البحثِ عن علاجٍ يعمل على إبطاءِ أو إيقافِ أو حتى معاكسةِ سيرِ المرض.
الكثيرُ من العمل والبحثِ ما يزال مطلوباً لإثبات جدوى هذه الدراساتِ الواعدةِ، وكلُّنا أملٌ أنْ نصلَ إلى يومٍ يُمحى فيه داءُ باركنسون من قائمة الأمراضِ التي ليس لها علاجٌ فعّال.
المصادر:
هنا
هنا
هنا
هنا
هنا
هنا