مدينة من تحديداُ؟! الحقيقة القاسية حول النمو الحضري
العمارة والتشييد >>>> التصميم العمراني وتخطيط المدن
ربما نحن مفتونون بالمدن، فنميل إلى رؤيتها من منظورين. من جهة، نراهم كمفتاح للنمو الاقتصادي والازدهار. حيث هناك منهجٌ ومدرسةٌ راسخةٌ حول فكرة طوباوية المدينة أو مثاليتها كما يتضح مما يسميه أستاذ الاقتصاد في جامعة هارفارد إد غلايسر Ed Glaeser "انتصار المدن". هذه الرؤية التي كوناها عن مدن العالم بكونها عقداً مفصلية في شبكات تدفق العناصر المختلفة المؤثرة عليها من رؤوس الأموال والناس والأفكار، تعتبر نقطة مركزية في أجندة الليبرالية الجديدة. لكن بالمقابل هناك نظرة تشاؤمية عن المدن "تنتشر غالباً في الصحراء الجنوبية لأفريقيا" تستند على كون المدن فوضوية ومركزاً للفقر والعنف. كينشاسا Kinshasa، عاصمة جمهورية كونغو الديموقراطية والتي يقطنها حوالي تسعة ملايين شخص، وُصفت من قبل عالم الإنسان البلجيكي فيليب دي بويكFilip De Boeck بأنها "المدينة التي هي ذاتُها في مكان آخر، تكون غير مرئية". في سياسات التنمية كان يُنظر إلى المدينة (ولا يزال البعض يمتلك هذه النظرة) بأنها سيئة، تقوم باستجذاب الناس المنتجين من المناطق الريفية إليها، فتضر بذلك بالإنتاج الزراعي الذي هو عماد التطور الاقتصادي.
أدى الاعتماد على النماذج الغربية للتخطيط والاحتواء الحضري إلى نتائج كارثية فيما يتعلق بإدارة نمو المدن في العديد من الدول ذات الدخل المتدني والمتوسط. معظم سياسات التنمية افتقرت إلى منظور حضري خاص بها، فنَتجَ بالمقابل نمو عشوائي للمدن في ظل الهجرة المستمرة والنمو السكاني السريع. السياسة الحضرية أينما وُجدت، وقفت بصف نخبة المدن العالمية وبالغت بتقدير أهمية الاستثمار العقاري والمشاريع الضخمة وتجاهلت احتياجات الفقراء الذين هم عنصر أساسي في اقتصاد المدينة. لنأخذ برازيليا التي كانت تعدّ مثالاً مهماً عن النمو الحضري المخطط مُسبقاً على سبيل المثال، لقد بُنيت المدينة بشكل كامل عام 1960 وفق مخطط قام بوضعه المعماري البرازيلي أوسكار نيمارOscar Niemeyer، فوُصِفت مدينته من قِبَل سيث كوغل Seth Kugelمن جريدة نيويورك تايمز "هناك بالكاد أثرٌ للفقر أو حتى للطبقة العاملة". إلا أن ذلك ليس سوى وهمٍ، حيث يعيش الناس في تجمعاتٍ كثيفةٍ من الأبنية العالية، التي تنتشر في أُفقِ برازيليا، لتصبح بالنهاية تماماً مثل كينشاسا عاصمة الكونغو، مدينةٌ يُمكِنُ تَسميَتَها بالمدينة المنسية أو غير المرئية.
يتم التحكم بتطوير الأراضي وإيصالات رفع قيمتها من قبل النُخب، الذين يقومون بالسيطرة على المواقع الأعلى قيمة وينشؤون غالباً مجتمعات مغلقة (مجموعة سكنية يسكنها الأغنياء وتكون محاطة بسور من جميع الجهات، تتم حراستها من قبل عناصر أمن يتم توظيفهم من قبل السكان). الفقراء لا يحصلون على مساكن أو أراضٍ، لذا يقومون باحتلال الأراضي الشاغرة التي غالباً ما تكون مُلوثةً أو غير مستقرة، لخلق ما يسمى بالمستوطنات غير الشرعية "العشوائيات". كما تقوم هذه الطبقة المهمشة بإنشاء اقتصاد خاص بهم يسمى بالاقتصاد غير الرسمي، بهدف توفير سبل العيش خارج الاقتصاد الرسمي للعقود والعمل المأجور.
لا يتوافر في هذه المناطق غير الشرعية بكل تأكيد أيُّ نوعٍ من أنواع البنى التحتية الضرورية، حيث تعاني هذه المجتمعات من ندرة المياه وارتفاع تكلفتها وانعدام الصرف الصحي، مما يؤدي بدوره إلى عبءٍ كبيرٍ وانتشار واسع للأمراض المعدية وغير المعدية. كما أن نمو هذه المستوطنات يؤدي إلى زيادة الأعباء على البلديات التي تَفتَقِرُ للموارد الأساسية حتى. وبينما يحتدم الصراع بين النظامين، يتم اتخاذ قرارات أُحادية الجانب لإبعاد الفقراء إلى الأراضي ذات القيمة المنخفضة حول المدينة، التي قد تتوفر فيها مساكن منخفضة التكلفة. في دلهي، تَمَ ترحيلُ أكثر من 300.000 شخص من منطقة نهر يامونا بين عامي 2004 و2006، بهدف ترقية المدينة وإعطائها اسماً ومكانةً عالميةً ولا تزال هذه العملية مستمرة. في عام 2013، تم تدمير مستعمرة غاياتري Gayatriفي غرب دلهي جزئياً من قبل الشرطة. وقال برابو دايال Prahbu Dayel، الذي خسر منزله المبني بالطين في هذه العملية "إنهم لا يسمحون لنا حتى بجمع أمتعتنا الخاصة". نَقلُ الناس إلى ضواحي المدن يعني قيامهم برحلات طويلة يومياً على الطرق المزدحمة من أجل الوصول إلى أماكن عملهم. في هذا السياق، نعود إلى تعريف التمدن الذي نستطيع وصفه حسب ما سبق: بأنه العملية التي يتم بها تجزئة المدينة إلى قطاعات وتفتيت المجتمع في نوع من الفصل المكاني، لا يختلف عن تقسيم المناطق في الفترات الاستعمارية التي أبقت طبقات المجتمع بعيدة عن بعضها البعض. وبهذا يتم استبعاد الفقراء وحرمانهم من الوصول إلى المنافع العامة.
المأزق الحضري هذا موجود في أماكن عديدة، والدليل الدامغ على وجوده هو فشل السياسات الحضرية في إدارة المدن بطريقة تضمن تحقيق العدالة الاجتماعية والمكانية. هذه الحال منتشرة في كلٍّ من أميريكا اللاتينية حيث التمدن بدأ بالوصول إلى حدوده القصوى، وأيضاً في الهند وأفريقيا التي لا تزال تملك احتمالية هائلة لانتشاره. وحتى اللحظة يتم الامتناع المستمر عن ذكر هذه الحالات في تقارير حالات المدن التي يصدرها برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية.
على الرغم من ذلك، هناك إدراك متزايد بأن نموذجاً جديداً أو ما يسمى التحول الحضري المستدام، هو أَمرٌ حتمي. وفق هذا السياق، أعلنت الحكومة في الصين وبالتحديد مركزها الحديث لدراسات نمو المدن في آذار عام الـ 2014 عن أولى خططها لإجراء دراسات معمقة تخص موضوع النمو الحضري بهدف محدد ألا وهو ترميم التفتت الحضري وتبني مبدأ الإدارة المستدامة للمدينة باعتبارها وسيلةً صريحةً للحفاظ على الممتلكات العامة والخاصة وتحقيق النمو.
إذا كان السؤال، هل المدن جيدة بالنسبة لنا؟ فإن الجواب: هذا أمر نسبي. التمدن الذي تتم إدارته بشكل سيء سيؤدي إلى التفتيت والإقصاء الاجتماعي وعدم المساواة. عدم الحصول على المياه والصرف الصحي والتعرض للتلوث والعنف والإصابات، جنباً إلى جنب مع العوائق لكسب الرزق، سيضع عبئاً لا يطاق على الفقراء من اعتلال الصحة والوفيات المبكرة وغيرها. وهذا بدوره، سوف يقوض عملية التنمية الوطنية. وفق ما سبق، لا يمكن التصدي لهذه التحديات الهائلة دون حل تناقضات التطور الحضري. حيث يجب وبشكل أساسي إشراك الفقراء في تحديد مسارات نمو وتغير المدينة، الأمر الذي يضمن توفر العدالة المكانية ليس داخل المدن وحسب بل في كافة أنحاء الدولة.
ديفيد كيلكولن David Kilcullen، في كتابه الخروج من الجبال Out of the Mountains، يُقدِمُ بشكل أساسيٍّ اثنين من السيناريوات الحضرية. الأول هو عالَمٌ بائِسٌ توجد ضمنه "المدن الوحشية" التي تسيطر عليها جماعات قوية، وبالتالي ستصبح مسرحاً لحروب العصابات والتمرد. والآخر أكثر تفائلاً بكثير، حيث تشارك المجتمعات المحلية في اختيار وتحديد ملامح المستقبل مما يعيد إيمانهم وحصتهم في المدينة.
وبالنهاية لا توجد إلا نتيجةٌ واحدةٌ: لقد حان وقت الاختيار. فهيا شاركونا آراءكم واختياراتكم.
ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن قسم المدن في جريدة الغارديان. نحن لا نقوم عادة باختيار مقالات الغارديان كمرجع علمي موثوق لكن قمنا بترجمة هذا المقال بسبب تصنيفه كقراءة مرجعية في عدد من أهم المراكز العلمية في العالم مثل:
- جامعة أوكسفورد University of Oxford:
هنا
- مدرسة لندن لحفظ الصحة واطب المناطق الحارة London School of Hygiene & Tropical Medicine:
هنا
المصدر:
هنا