إنجازٌ غير مسبوقٍ يثيرُ الجدلَ من جديدِ حولَ أخلاقيّاتِ أبحاثِ الأجنّةِ البشرية
البيولوجيا والتطوّر >>>> الأساسيات في البيولوجيا
اليوم، يعُلنُ فريقانِ من العلماءِ عن تمكّنهم من إنماءِ أجنّةٍ بشريةٍ في المختبرِ وإبقائها على قيد الحياة لمدة 12-13 يوماً. إنجازٌ يمكن أن يَفتحَ باباً جديداً وواسعاً في مجال علم الحياةِ البشريةِ، إذ سيكون بمقدور العلماءِ دراسةَ المراحلِ المبكرةِ من تطوّرِ الأجنّةِ البشريةِ بدقةٍ لم يسبق لها مثيل، وقد يقود ذلك إلى فهمٍ أفضل للعوامل التي تُسبّب الإجهاض والعيوب الخلقيّة. لكن من جهةٍ أخرى، فإنّ هذه الخطوة غير المسبوقة قد تضعُ العلماءَ في صدامٍ مع "قانون الـ 14 يوم"، وهي بالفعل تُثير الجدلَ من جديد حول أخلاقيّاتِ إجراءِ تجاربَ على الأجنّةِ البشريةِ في المُختبرِ.
إنجازٌ غير مسبوق:
قبل أربع سنواتٍ من اليوم، توصّل فريقٌ بقيادة عالمة الأحياء التطوريّة ماجدالينا زيرنيكا-غوتز (Magdalena Zernicka-Goetz) في جامعة كامبريدج ولأوّل مرةٍ إلى إنماء أجنّة فئران لما بعد مرحلة التعشيش، ومنذ ذلك الحين عمل الفريق على تطوير الأساليب المتّبعة في أبحاثه.
واليوم، جاء الإنجاز الجديد في مجال أبحاث الأجنّة البشرية بالتعاون بين فريق زيرنيكا-غوتز وفريقٍ آخر من الباحثين يقودهم علي بريفانلو (Ali Brivanlou)؛ الباحث في علم الأجنّة والمتخصص في دراسة الخلايا الجذعية في جامعة روكفلر في نيويورك. وقد تمّ نشر البحثين في مجلة Nature و Nature Cell Biology.
كما أشرنا سابقاً، جاهد الباحثون من قبل للإبقاء على حياة الأجنّة في المختبر لفترةٍ تتجاوز السبعة أيام الأولى من عمليةِ التطور الجنيني، والتي تُمثلُ الفترة اللازمة لحدوث التعشيش في الرحم. هذه "المرحلة من حياتنا التي تُتخّذ خلالها بعضاً من "القرارات البيولوجية" الأكثر أهمية، وقد كانت بمثابة فجوةٍ سوداء في مسيرة الطوّر الجنيني لا نعرف عنها شيئاً" وفقاً للباحثة زيرنيكا-غوتز.
تمكّن كِلا الفريقين من إبقاء الكيسات الأرومية (Blastocytes) على قيد الحياة لتلك المدّة بوضع الأجنّة المخصّبة (الناتجة عن التلقيح الاصطناعي) في أوساطٍ زرعية (مُستَنبِتات) تحتوي عوامل نموٍ مختلفة وهرموناتٍ مصمّمة لمحاكاة الظروف الطبيعية في الرحم. كما تضمّنت أطباق بتري على بِنى مشابهة لجدار الرحم لكي تتمكّن الأجنّة من الالتصاق بها.
بعد حدوث التعشيش الطبيعي، يعمل جزءٌ من الجنين على تنظيم نفسه ليشكّل المشيمة والكيس المُحّي. الأجنّة البشرية المنمّاة في المختبر ضربت جميع التوقّعات فيما يتعلّق بعملية التعشيش؛ لقد تطوّرت بالشكل الصحيح وولّدت العديد من الأنماط الخلوية على الرغم من افتقادها للبنية والتغذية التي تزوّدها بها أنسجة الأمّ في الحالة الطبيعية. لقد تصرّفت الأجنّة وكأنّها موجّهةً بشكلٍ تلقائي كما "يعمل نظام السائق الآلي".
أوقفَ الفريقانِ أبحاثهما عند وصولِ الأجِنّةِ لليومينِ الثالثِ عشر والرابِعِ عشر بعد الإخصابِ، وفقاً لما ينِصّ عليه القانون البريطانيُّ والعديدُ من التوصياتِ في الولاياتِ المُتحدةِ الأمريكيّةِ. وعلى الرغمِ من ذلك، كانت هذهِ الفترةُ كافيةً لكي يتأكّد الباحثون من أنّ أجنّة الفِئرانِ هي نماذجُ غير مثاليةٍ لدراسةِ الأجنةِ البشريّةِ. وتعقّبُ زيرنيكا-غوتز على ذلك بِقولها: "يتوجّبُ عليك أن تدرُس الجنين البشريّ لكي تفهمَ الجنين البشريّ!"
الجانب الأخلاقيّ القانونيّ:
يمثّل قانون الـ 14 يوم عائقاً أمام الباحثين في استكشاف الخصائص المميّزة للأجنّة البشرية في مراحله اللاحقة من التطوّر، لكنّ هذا القانون ذاته قد لعب دوراً رئيسياً في جعل الأبحاث المخبرية على الأجنّة البشرية مقبولةً في المقام الأوّل.
تمّ اقتراح هذا القانون عام 1979 عن طريق ما سيصبح فيما بعد إدارة الصحّة والخدمات البشرية في الولايات المتحدّة، واليوم أصبح ضمن تشريعات 12 بلداً والمبادئ التوجيهية لخمسة بلدانٍ أخرى من روّاد الأبحاث حول العالم.
يعمد هذا القانون على تمييز المرحلة التي يتطوّر فيها الجنين إلى ما يُسمّى "الثّلم البدائي primitive streak" (وهي حزمة باهتة من الخلايا تمثّل بداية تشكّل المحور من الرأس إلى الذيل لدى الجنين). بعد تلك المرحلة لا يمكن للأجنّة أن تنفصل لتشكّل توائماً ولا أن تلتحم مع بعضها، لذلك يعتبرها الكثيرون العتبة التي يتجاوزها الجنين ليصبح "إنساناً مستقلّاً". وكما أصبح جليّاً الآن، فقد أصبح العلماء اليوم على مقربةٍ من الوصول لهذه العتبة أكثر من أيّ وقتٍ مضى.
جدلٌ قديمٌ حديث فيما يخصّ أبحاث الأجنّة البشرية:
في ظلّ توافر الوسائل المخبريّة اللازمة لتخطّي عتبة قانون الـ 14 يوم، ومع التطوير المستمرّ لتلك الوسائل، يعتقد الكثيرون أنّ الوقت قد حان لإعادة النظر والتفكير فيما إذا كانت هناك حاجةٌ علميةٌ لإطالة فترة حياة الأجنّة البشرية في المختبر.
في مقال رأي نُشر في مجلة Nature بالتزامن مع نتائج الأبحاث الأخيرة، يعتقد إنسو هيون Insoo Hyun، الباحث في الفلسفة وأخلاقيّات علم الأحياء، أنّه يتوجّب تحديث القوانين الحالية لكي تتوافق مع آخر ما توصّلت إليه الأبحاث المخبرية. يقول: "لم يقصد بقانون الـ 14 يوم أن يكون بمثابة خطٍّ فاصلٍ يمثّل منطلق الحالة الأخلاقية لدى الأجنّة البشرية، وإنما كان بمثابة أداةٍ سياسية تهدف إلى إقامة حيّزٍ للبحث العلمي، وفي الوقت ذاته لإبداء الاحترام لوجهات النظر المختلفة فيما يتعلّق بأبحاث الأجنّة البشرية".
البعض الآخر لديه رأيٌ مختلف؛ "بالطبع يمكن أن تخضع القوانين دوماً لإعادة النظر" وفقاً لمارسي دارنوفسكي Marcy Darnovsky، المدير التنفيذي لمركز علم الوراثة والمجتمع في كاليفورنيا، الذي يضيف قائلاً: "لكنّ قانون الـ 14 يوماً كان معنياً بأن يشكّل حداً فاصلاً واضحاً". كما لا يمكن إغفال الانتقادات ذات المنطلقات الدينية التي تتعرّض لها أبحاث الأجنّة البشرية بين الحين والآخر.
يُجمع كثيرً من الباحثين على أن إنماء أجنّة بشرية لفترةٍ تتعدّى 14 يوماً قد يساعد في التوصّل إلى إجاباتٍ عن كثيرٍ من الأسئلة الأكثر إلحاحاً، من قبيل كيفية يتطوّر الجهاز العصبي. حدوث ذلك من عدمه يبدو أمراً غير واضحٍ في الوقت الحالي، لكنّ من المؤكّد أنّ إجراء أي تعديلاتٍ قادمة سيتطلّب كثيراً من النقاشات بين صنّاع القرار وبين العامّة.
المصادر:
هنا
هنا
هنا