لماذا يحتاجُ علمُ الكونيات إلى الفلسفة؟
الفيزياء والفلك >>>> فلسفة الفيزياء والكونيات
علم الكونيّات " Cosmology" هو عِلمٌ يدرُسُ الكون. وإذا أخذنا كلمة " Cosmos" فإنها تعني كلّ شيءٍ موجودٍ على الإطلاق، الأمرُ الّذي يَجعلُ عِلمَ الكونيّاتِ موضوعًا يُشكّلُ تحديّاً كبيراً.
كانَ النّاسُ مُنذُ زمنٍ غيرِ بعيدٍ يَنظرونَ إلى عِلمِ الكونِ باعتباره لا يَمُتُّ للعلمِ بِصِلة. بل اعتقدوا أنّهُ يخضَعُ لِلتَكهّناتِ أو أنّهُ محصورٌ بالأديان. أما اليوم، ومعَ تطوّرِ التجارُبِ العلميّة الأرضيّة والفضائيّة الّتي تُزوِّدُنا باستمرارٍ بِأدلّةٍ دامغةٍ حَولَ طبيعةِ الكون، فقد تغيّر هذا إلى حدٍ ما. وبرغم ذلك لا تزالُ هناكَ العَديدُ من التساؤلاتِ العميقةِ الّتي تَحتاجُ لأن تبرُز للواجهة.
يعتقِدُ جورج إيليس" George Ellis"، عالِمُ الكونيّاتِ والرّياضياتِ الشَّهير، أنّهُ يجِبُ التّمييز بين علمِ الكونيّات "Cosmology" بحرفِ C كبير، وعِلمِ الكونيّات "cosmology" بحرفِ c صغير. فعِلمُ الكونيّات بحرفٍ صغيرٍ يَبحثُ في البُنيةٍ واسعةِ النِّطاق من الكونِ المادّي؛ أي أنّه يدرُسَ بنيةَ النّجوم والمجرّات وإشعاعُ الخلفيّة الميكرويّ وهلُمَ جرّا، وترى كيفَ ترتبِطُ كلّ تلك الأشياءِ معًا في قِصّةِ تَطوّرِ الكون. أما الكونيّات بحرفٍ كبير، فتحوي أفكاراً إضافيّةً فلسفيّة حول معنى الحياة، وسببِ وجودِنا في الكون، أو مصيرنا، الخ.
وَمِنَ الواضحِ جدّاً أنَهُ مِن أجلِ التَعامُلِ معَ عِلمِ الكونيّات بحرفِ C كبير، فإنّك تحتاجُ إلى أكثرَ مِنَ الفيزياء. تحتاجُ إلى الفلسفة. في حين أن عِلمَ الكونيات بحرفِ C صغير، يخضَعُ أكثرَ للأساليبِ العلميّة في الدّراسة. لكن هنالكَ مُشكِلةٌ كبيرةٌ، هيَ أنّ لدينا كونًا واحِدًا فقط، ولا يُمكِنُنا أن نُجرّب عليه.
لمعرفةِ طبيعةِ شيءٍ ما في الفيزياء العاديّة، عليكَ أن تَأخُذَ نُسخاً كثيرةً من هذا الشّيء الّذي تودُّ معرفةَ كيفيّةِ عمله، وتقومَ بإجراء التجارُبِ عليها، ومن ثُمَ تَحصَلُ على نتيجةٍ إحصائيّةٍ حول طبيعةِ هذا الشّيء. وبما أنّهُ لدينا كونٌ واحِدٌ فقط، فَكلُّ ما يُمكِنُنا القيامُ بِه هوَ مُراقَبةُ هذا الكونِ الوحيدِ الموجود. لذلك لا يمكنُنا الحصولُ على أيّةِ نتائِجَ إحصائيّة. يمكننا بالطّبعِ الحُصولُ على إحصاءاتٍ في الكون، ولكن لا يُمكِنُنا المُقارَنَةُ بَينَ أكوانٍ مُختلفةٍ، لذلك لا يُمكننا الحُصولُ على إحصاءاتٍ لِنماذِجَ مُختلِفةٍ من الكون، وهذا ما يُميّزُ عِلمَ الكونيات عن كلِّ العلوم الأخرى.
هُناكَ مُشكلةٌ أخرى تواجِهُ العُلماءَ في دراستهِم للكون، وهي أنّهُ كبيرٌ جِدّاً و قديمٌ جِدّاً. ويتعذّرُ الوصول إلى جميعِ أنحائهِ، إذ يحوي الكثيرَ مما لا يُمكِنُنا أن نراهُ أو نختَبِرهُ بشكلٍ مُباشر، فكيفَ بنا أن نُحدِّدَ القوانينَ الفيزيائيّةَ التي تحكمُ ما لا نستطيعُ اختباره؟
تنطبقُ قوانينُ الفيزياءِ على مُستوى المجموعةِ الشّمسيّة أو المجرّات، وبالاعتمادِ على هذا يُمكننا أن نُطَبِّقَ هذهِ القوانينَ على مستوى الكونِ بأسره؛ أي باختصار علينا أن نُحاوِلَ مَعرِفَةَ ما يُمكنُنا استنتاجُه من القوانين التي تَصِفُ الكونَ على المستوياتِ الصغيرة لتطبيقها على مستوياتٍ أكبر وأشمل.
ولكن بما أن الكونَ لا يَتكاثَرُ في المُختَبر، فإن المُشكِلةَ هي في كيفيّةِ اختِبارِ النظرياتِ حوله. كيف يُمكِنُنا أن نَعرِفَ أنها صَحيحةٌ حَقًا؟
تُعدُّ نظريّة "الأكوانِ المُتعدّدة" - الّتي لا يُمكِنُنا بالطّبعِ اختِبارُها ضمنَ الإمكانيّاتِ الحاليّة - إحدى أكثرِ النّظرياتِ إثارةً لِلجدل حاليًا. تَفترِضُ هذهِ النّظريةُ أنَّ هُنالكَ العديدُ مِن الأكوان المختلفةِ الّتي تُشبِهُ فقاعاتِ الصّابون، والكونُ الّذي نعيشُ فيه يقبَعُ في إحداها، أمّا الأكوانُ الأخرى فقد تكونُ ذاتَ طبيعةٍ مختلفةٍ، وقد تختَلِفُ فيها القوانينُ الفيزيائيّة والثّوابت الّتي اعتدنا عليها في كوننا.
لكن ليسَ هُناكَ أيُّ دليلٍ مُباشرٍ يؤكِّدُ هذهِ النّظريّة ولن يكون هنالك أبداً. فمن غيرِ المُمكِنِ الحُصولُ على أدلّةٍ مُباشرةٍ تدعمُها، وإذا لم تَتَمكَّن مِن اختبارِ النَّظريةِ فعليكَ أن تسأل نفسك: هَل هذا افتراضٌ علميّ أم فلسفيّ؟
يَعتقِدُ جورج إيليس أنّها فلسفةٌ مُستوحاةٌ من العِلم، وليست عِلمًا، لأنّ الفرقَ كبير. يَقترِحُ البَعضُ أنه ينبغي لنا التساهُل في قَبولِ الأفكارِ الجديدة؛ بمعنى أنّهُ إذا كان لدينا حُجّةٌ نظريّة قويّةٌ تدعَمُ هذهِ الأفكارَ الجديدة، فينبغي لنا أن نعتَبِرها جيّدةً جِدًا ولا حاجَةَ لاختِبارِها. لكِنّ إليس يَعتَقِدُ أن هذا خَطيرٌ جِدّاً لأنّهُ سيسمحُ لجميعِ أنواعِ العُلومِ الزّائفة بِأن تُصنّفَ بِوصفِها عِلمًا. يقولُ أليس: " لا أعتَقِدُ بِأنّنا نُريدُ أن نرى هذا".
وهُناكَ سؤالٌ فلسفيٌّ آخر يُهدّدُ سَعينا لإيجادِ قوانين الطبيعة. ما هيَ قوانينُ الطّبيعةِ بالضّبط؟ هل هيَ شيءٌ مُستقِلٌّ عنّا نحنُ البشر؟ هل هيَ قوانينُ وضعها "إلهٌ" خارجُ الكونِ يُسيطرُ بها على ما يجري في داخلهِ؟ أم هي شيءٌ اخترعناهُ نحنُ البشر لوصِفِ العالمِ الّذي نَعيشُ فيه؟
يقولُ جورج إليس: "إنّ قوانينَ الطّبيعة ليسَت جُزءاً مِن الكونِ إلى حدٍّ ما" ويضيفُ فيقول: "إنَّ قوانينَ الطّبيعةِ تكمُن وراءَ الكون، لأنّها تَتَحكَّمُ في كيفيّة سلوكِ المادَّة، لكنّها ليست مصنوعةٌ بحدِّ ذاتها مِن المادَّة فقوانينُ الفيزياءِ ليست مصنوعةٌ من الرّصاص مثلًا أو اليورانيوم أو أيّ شيءٍ من هذا القبيل". من وجهةِ نظرِ إليس، تعيشُ قوانينُ الطَّبيعةِ في مساحةٍ أفلاطونيّةٍ مُجرّدة مُستقِلّة عَن الوجودِ الإنساني، إضافةً لِأنَّ قوانينَ الفيزياءِ لا تَعتَمِدُ في وجودِها على البشرِ، لكِنَّ وجودنا كبشرٍ يًعتمِدُ على فَهمِنا لهذه القوانين. ِلذلِك يَجِبُ علينا أن نُميِّزَ بينَ القوانينِ في حدّ ذاتها وما نَعرِفُه عنها. فنحنُ لا نعرفُ في الحقيقةِ ما إذا كانت قوانينُ الطّبيعةِ وصفيّةً أم إرشاديّةً، ولايُمكننا أن نعرِف".
إنَ المسالةَ مُشابِهةٌ جدّاً للمشكلةِ الّتي تُطرحُ حولَ الرّياضيات. تُعدُّ الرياضيّات اللغةَ الّتي تَكتبُ قوانينَ الطّبيعةِ الّتي نَعرِفُها. فهلِ الرّياضيات شيءٌ اخترعناه، أم أنّها شيءٌ يَعيشُ في وجودٍ مُنفصِلٍ خاصٍّ بها؟
يَعتقِدُ جورج إيليس أيضاً أنّ الرّياضيات موجودةٌ في الفَضاءِ الأفلاطوني، ويقول: "بعبارةٍ أُخرى، هناك واقعٌ رياضيٌّ نستَكشِفُه بِعقُولِنا، ونفهمُه أحيانًا، ولا نفهمُه أحيانًا أخرى؛ فنحنُ لا يُمكنُنا أن نتصوّر الجَذرَ التّربيعيّ للرّقمِ اثنين مثلًا، لكنّهُ حقيقة. فهي إذاً حقيقةٌ مُستقِلّةٌ عن فهمِ الإنسان. ولذلك فإنّنا نكتشفُ تلك الأشياءَ ولا نخترِعُها. أعتَقِدُ أن هُنالك عالَمٌ أفلاطونيٌّ للرّياضيّات، وعالَمٌ أفلاطونيٌّ آخرُ للفيزياء، لكنّني لستُ مُتأكّدًا من كيفيّة ارتباطهما معًا".
لا يَتفِقُ الجَميعُ مع اقتراحِ جورج إليس الأفلاطوني. إذ يعتقِدون أنَ الرياضياتِ الّتي نَعرِفُها مَحدودةٌ بنا نحنُ البَشر، وقد تشكّلت وفقاً للطّريقةِ الّتي نَنظُرُ بِها إلى العالم. يقترِحُ عالِمُ الرّياضيات البريطانيّ مايكل عطيّة أنَهُ لو كان كلُّ الذّكاءِ الإنسانيِّ في العالمِ محبوساً بداخِلِ قنديلِ بحرٍ يَعيشُ في أعماق المحيط، حيثُ لا توجدُ أيّةُ أشياءَ فرديّةٍ لِنَعُدّها، لما نشأ مَفهومُ عَدِّ الأرقامِ الّذي يُعدُّ عالميّاً بالنّسبَةِ لنا. وبالمثل، هُنالك من يعتقِدُ أنّ قوانينَ الطَّبيعةِ هي مُحاولةٌ يقومُ بها البشرُ لِوصفِ الأنماطِ الّتي نراها في العالمِ الّذي نعيش فيه، لا أكثرَ ولا أقل.
قد تبدو لك هذه الأفكارُ بلا جدوى، لكِنّ الفلاسِفةَ يعتقِدون أنّ لها أهميّةً حقيقيّةً. فالطّريقةُ الّتي نرى بها قانونَ الطّبيعة تؤثّر على الطّريقةِ الّتي نُفكِّرُ بها في الكونِ والأسئلةِ الّتي نطرحُها حوله.
المصدر: هنا