رحلة اكتشاف النّترينو / الجزء الثاني
الفيزياء والفلك >>>> فيزياء
تُعدُّ روايةُ الكشفِ عن النّترينو إحدى الرّوايات الممتعةِ والرّائعة، والّتي قد تحدث فقط في مختبرات لوس ألاموس Los Alamos". وفيما مقالنا هذا سنستعرض الجزءُ الأوّلُ والجُزء الثاني من قصتنا رحلة اكتشاف النوترينو.
الجزء الأول: الكشفُ عن جسيماتِ النّترينو لأوّل مرّة
أبطال هذا الجزء هم العلماء فريدريك راينز "Frederick Reines" وزميله كلايد كوان "Clyde Cowan".
كانت البدايةُ في الخمسينات من القرنِ العشرين، حيث كان رينز؛ الّذي يعملُ في مُختبر لوس آلاموس، يقودُ بضعةَ مشاريعَ لاختبارِ الأسلحةِ النوويّة في المحيط الهادئ، وكان في الوقتِ نفسه مُهتمّاً بالبحثِ عن إجاباتٍ للأسئلةِ المتعلّقة بفيزياءِ الجسيماتِ الأوليّة؛ والّتي تُعدُّ إمكانيّة الكشفِ عنها جُزءاً من تلكَ الاختبارات.
كان يُعتقد بأنَّ الانفجارَ النوويّ يَخلقُ رَشقةً قويّة من الجسيماتِ المُضادّة للنِّترينو "antineutrinos" واعتقد راينز أنَّ بالإمكان تصميمُ تجربةٍ قد تُمكّننا من الكشفِ عن بعض تلك الجسيمات. أقنع راينز زميله كوان بالعملِ معهُ لتصميمِ تجربةٍ كهذه.
أولى الأفكارِ الّتي خطرت في بالهما هي أنْ يضعا كاشفاً ومّاضاً عملاقاً، يتألّف من مادّة سائلةٍ موضوعةٍ في نفقٍ عموديٍّ بالقربِ من موقعِ اختبارِ انفجارٍ نوويٍّ جويٍّ. ولكن فيما بعد، وَجدَا أنَّ وضعَ الكاشفِ بالقربِ من مفاعلِ نوويٍّ سيكونُ أمراً أفضلَ وأكثرَ أماناً. فتوجه راينز وكوان في العام 1953 إلى المفاعل الانشطاريِّ العملاقِ الّذي يقعُ في هانفورد "Hanford" بواشنطن، آخذَيْنِ معهما كاشفاً يتّسعُ لـ 300 لتر من السّائل لقّباه بـ “Herr Auge” وتعني بالألمانيّة ”السّيد عين “Mr. Eye.
عندما كان المفاعلُ يعملُ كشفَ راينز وكوان عن تزايدٍ صغيرٍ في الإشارات الشّبيهةِ بإشاراتِ النِّترينو، لكن عند توقّفهِ عن العمل كانت الضّجّة تعمُّ الأرجاء.
لذا لم يكن بمقدورِهما أن يستنبطا بشكلٍ مؤكّدٍ أنّ الإشاراتِ عائدةٌ لجسيماتِ النِّترينو الصّادرةِ عن المفاعلِ أم لجسيماتِ الأشعّةِ الكونيّة، فدرعُ الكاشفِ يستطيعُ حجبَ النّترونات وأشعّةِ غاما الصّادرة عن المُفاعل،لكن ليس بمقدورِه إيقافُ فيضِ الأشعّةِ الكونيّةِ الّتي تهطِلُ على الأرضِ من الفضاء.
خلالَ السّنةِ التّالية أعادَ راينز وكوان تصميمَ كاشفِهما بشكلٍ كاملٍ ليُصبِح مكوّناً من ثلاثِ طبقاتٍ مرتّبةٍ ومتراصّة كي يُفرّقا بوضوحٍ بين الإشاراتِ العائدة للنِّترينو وتلكَ العائدةِ لجسيماتِ الأشعّة الكونيّة. وفي أواخر العام 1955 عادا إلى العملِ مُجدّداً باستخدامِ كاشفٍ جديدٍ تبلغُ كتلتهُ 10 أطنان، لكن توجّها هذه المرّةَ إلى المفاعلِ الانشطاريّ القويّ عند غاباتِ نهرِ السافانا في كارولينا الجنوبيّة "South Carolina".
استغرق راينز وكوان أكثرَ من خمسةِ أشهرٍ ليَجمعا البياناتِ وليُحلِّلا النّتائج، ليقوما أخيراً في شهرِ حُزيران من العام 1956 بإرسال برقيّةٍ مُفرحةٍ إلى باولي جاء في مضمونها: ‘‘يُسعِدُنا أنْ نُعلمكَ أنّنا كشفنا عن جسيماتِ النّترينو بشكلٍ قطعي’’ وليكون هذا التّاريخ هو ميلاد النّترينو.
الجزء الثّاني من الرّواية: الكشفُ عن جسيمات النِّترينو الصّادرة التّحولاتِ النوويّة في باطن الشّمس:
العلماء: راي دايفيس "Ray Davis" وجون باكال "John Bahcall"
نتائجُ التّجربة: الكشفُ عن جسيماتِ النِّترينو الصّادرة عن الشّمس.
المشكلة: عدمُ القدرةِ على تفسيرِ نتائج تجربة دايفيس (مشكلة النّترينو الشّمسيّ).
حلّ المشكلة: اكتشافُ اهتزازِ جسيماتِ النّترينو.
ظهرَ لغزٌ جديدٌ للنّترينو في السّتينات من القرنِ الماضي، والمكانُ هذه المرّة في منجمِ هوميستيك "Homestake" للذّهب في داكوتا الجنوبيّة "South Dakota". فصمّمَ الكيميائيُّ النوويّ راي دايفيس "Ray Davis" تجربةً للكشفِ عن جسيماتِ النّترينو النّاتجة عن التّحولاتِ النّوويّةِ الّتي تحصلُ في باطنِ الشّمس؛ والّتي تُعرفُ بـِ جسيماتِ النِّترينو الشّمسية "solar neutrinos". واستخدم راي في هذهِ التّجربةِ كاشفاً ضخماً يتموضعُ في منجمِ هوميستيك، على عمقِ ميلٍ من سطحِ الأرضِ ليضمنَ لهُ التّدريعَ من الأشعّةِ الكونيّة، ويختلفُ هذا الكاشفُ عن سابقه أنَّ غازَ الكلور يدخل إليهِ من قاعدته.
كشفَتْ تَجربةُ دايفيس جسيماتِ النّترينو الشّمسيّة لأولِ مرّةٍ في العام 1968، لكنّ النّتائجَ الّتي حصلَ عليها كانت مُحيّرةً وقادت كما سنسردُ لكم إلى التّناقض المعروفِ بـ ”مشكلةِ النّترينو الشّمسيّ “solar neutrino problem.
قامَ عالمُ الفلكِ جون باكال "John Bahcall" بحسابِ التّدفقِ المتوقّعِ لجسيماتِ النِّترينو الصّادرة عن الشّمس، وهو عددُ جسيماتِ النّترينو الّتي ينبغي أنْ تُكشفَ في مساحةٍ محدّدةٍ خلالَ فترةٍ زمنيّةٍ معيّنةٍ. لكنّ تجربة دايفيس كشفَت فقط عن حوالي ثلثِ عددِ جسيماتِ النّترينو المُتوقّعةِ.
اعتقدَ العلماءُ في البدايةِ أنَّ هناكَ خطباً يتعلّقُ إمّا بتجربةِ دايفيس أو بالنّموذجِ الّذي يصفُ الشّمس، لكن تبيّن أنَّ المشكلةَ ليست بكليهما. وتطلّبَ الأمرُ وقتاً طويلاً من العلماءِ حتى بدؤوا يشكّون بأنَّ المُشكلةَ قد تتعلّقُ بجسيمات النِّترينو نفسها. في سياق ذلك قالَت ريلاج: ’’لطالما فاجأتنا جُسيماتُ النِّترينو. فعندما نعتقدُ بأنَّ بعضَ الأمورِ على درجةٍ صغيرةٍ من البساطةِ يتّضحُ فيما بعدُ أنّها ليست كذلك‘‘.
وضع العلماءُ نظريّةً تفترضُ بأنَّ جسيماتِ النِّترينو قد تهتزُّ أو تَتغيّرُ من نوعٍ لآخرَ عندما تُسافرُ عبرَ الفضاء. وبما أنَّ تجربة دايفيس حسّاسةٌ فقط لجسيماتِ النِّترينو الإلكترونيّ، فإنّ اهتزاز جسيماتِ النِّترينو خلالَ رحلتها بين الشّمسِ والأرضِ يوصِلُها إلى الأرضِ بخليطٍ من ثلاثةِ أنواعٍ، الأمرُ الّذي قد يُفسّرُ كشفَ تجربةِ دايفيس عن ثُلثِ عددِ جسيمات النّترينو المُتوقّع.
تُعدّ تجربةُ الكاميوكاندي الفائق "Super-Kamiokande" الّتي اُجريَت في اليابانِ عامَ 1998، أولُ تجربةٍ كشفت عن اهتزازاتِ جسيماتِ النّترينو في الجوّ. وبعدها في العامِ 2001، أعلنَ مرصدُ النّترينو سودبوري "Sudbury Neutrino Observatory" في كندا عن حصولهِ على أوّلِ دليلٍ يؤكّدُ اهتزازاتِ جسيماتِ النّترينو الصّادرةِ عن الشّمس ليُتبع بدليلٍ قطعيٍّ في العام 2002.
إذن، وبعد مرور 30 عاماً، تمكّن العلماءُ من إثباتِ اهتزازِ جسيماتِ النّترينو ومن حلِّ مشكلةِ النّترينو الشّمسيّ.
يقول غابرييل أوريبي غان "Gabriel Orebi Gann" الباحثُ بشؤونِ النّترينو في جامعة كاليفورنيا في بيركيلي، والباحثُ بـ مُختبر لورانس بيركلي الوطني، قائلاً: ’’تُعدُّ الحقيقةُ العلميّةُ القائلة باهتزازِ جسيماتِ النِّترينو مثيرةً للاهتمام. لكنَّ الأمرَ المُحرجَ أنَّ تلك الحقيقةَ تفترضُ امتلاكَ جسيماتِ النِّترينو لكتلة، ما يُعتبرُ هزّةً كبيرةً للنّموذجِ المعياريّ في الفيزياء كونُه لا يتنبّأ على الإطلاقِ بإمكانيّة امتلاكِ جسيماتِ النّترينو لكتلة‘‘.
المصدر: هنا
الجزء الأول من السلسلة هنا
الجزء الثالث من السلسلة هنا