روبوتٌ مَرِنٌ على شكلِ أخطبوط
الهندسة والآليات >>>> التكنولوجيا
تروي الأستاذة (Cecilia Laschi) قصةَ أولِ تجربةٍ للروبوت الأخطبوط: "كانت أشعة الشمس تنعكسُ على سطحِ المياهِ في البحرِ الأبيضِ المتوسطِ في فترة ما بعد الظهيرة، عندما قذف طالب الدراسات العليا في مختبري الروبوت الأخطبوط الخاص بنا في الماء لأول مرة. شاهدت في قلق كيف كان ذلك الكائن الإلكتروني يغرقُ تحتَ الأمواج. لكنّ الروبوت تجاوبَ بسرعةٍ عندما أعطيناه الأمر بالسباحة، عندها قامَ الروبوت بملء الحُجرة القابلة للتوسع بالماء، ومن ثمّ قامَ بنفث السوائل بغية الحركة إلى الأمام. وعندما أعطيناه الأمر بالزحف، قامَ باستعمال أذرعه الثمانية المرنة في تسلسلٍ معينٍ لدفع نفسه على طولِ القاعِ الرملي، وفوق الصخور المتناثرة. وعندما قمنا بتوجيهه لاستكشاف مساحة ضيقة تحت إحدى السفن، قامَ الروبوت بذلك بكل سهولة ودخل من خلال فجوة صغيرة وذلك بفضل جسمه المرن".
تعمل (Laschi) كأستاذة في معهد الروبوتات الحيوية في (Scuola Superiore Sant’Anna)، في بيزا الإيطالية، وتقود فريق يبحث في مجالِ الروبوتات المرنة. هذا الحقل الجديد نسبيًّا من الأبحاث، لديه القدرة على قلب أفكارنا حولَ ماهية الروبوتات وحول قدراتها وكيفية الاستفادة منها. لقد اختارت هذه الأستاذة بناء روبوتات تُحاكي شكلَ الأخطبوط لسببين. أولا، لأنه مناسبٌ تمامًا لإظهارِ العديدِ من مزايا الآلات التي يمكنها أن تنثني وتتقلص حسب الحاجة. وأيضًا، لأنّ الأمر يُشكل تحديّاً هندسيّاً ممتازاً، فمحاكاة أخطبوط مع ثمانية أذرع، والتي يجب أن تعمل معاً في مواجهة القوى الهيدروديناميكية المعقدة، هو أمرٌ صعبٌ جدًا من حيث التصميم والتحكم.
لماذا علينا الاهتمام أكثر بالروبوتات المرنة؟
يأملُ الفريقُ في سياقِ البحثِ في أنْ يحثّ الناس على إعادة النظر بصورةٍ جذرية في النظريات والتقنيات الروبوتية. حيث أرادَ عرضَ بعضِ الموادّ التي يمكن أن تستخدم في محركات يمكنها أن تتقلص وتتمدد. وبشكل أكثر حسماً، وسعى أيضاً إلى تطويرِ استراتيجياتٍ؛ لتشغيلِ الروبوتات التي يمكنُ أن تقلص وتمدد أطرافها في أي اتجاه، وهذا الأمر الذي يجعلُ السيطرة على الروبوتات المرنة أكثر صعوبة من السيطرة على الروبوتات التقليدية. الروبوتات التي نعرفها تملك فقط بضعَ درجات من الحرية. ولكن في الروبوتات المرنة تكون درجات الحرية أكثر بكثير.
تُستعمَلُ الروبوتات في وقتنا الحالي بصورةٍ رئيسيةٍ في المصانع، حيث أن بُنية الروبوتات الصلبة تكونُ مناسبةً تمامًا للمهام المتكررة كالتحميل والتفريغ. لكن يجب النظر إلى أماكن أكثر إبداعاً يمكن أن نستعمل الروبوتات فيها، مثل البيئات التي لا يمكن التنبؤ بها حيث وفي كثير من الأحيان لا يمكن أن تعمل الروبوتات فيها بصورة جيدة.
يريدُ بعضُ الباحثين بناءَ روبوتات مَرِنَة يمكنها التنقل في الأماكن الطبيعية غير المنتظمة، مثل قاع المحيطات أو على سطح المريخ. يجب أن تملك هذه الروبوتات القدرة على التحرك على أرض وعرة، دون أن تَعْلق ويجب أن تلتقط أي جسم غريب دون أن يكون له شكل منتظم. يركز باحثون آخرون على الروبوتات المرنة التي يمكن الوثوق بها من حيث عدم إيذاء البشر الذين من المحتمل أن يتعاملوا مع هذه الروبوتات. يمكن لهذه الروبوتات المرنة، على سبيل المثال، العمل كمساعد لمن يملكون احتياجات خاصة أو حتى كبار السن، والروبوتات المرنة المصغرة يمكن أن تستعمل داخل جسم الإنسان في المجال الطبي.
سعيًا لتحقيق هذه الأهداف، يدرسُ الباحثون في هذا المجال الحيوانات، وتشريحها بشكل متزايد لاستلهام التصاميم منها. هذا الأمر يبدو معقولاً لأن أجسام الحيوانات تتكون في معظمها من موادّ مرنة، مع مفاصل وأنسجة يمكنها أن تغير شكلها دون ضرر، وذلك لأن أنسجتها المرنة تمتصُ الصدمات، ويمكن أن تتكيف على الأسطح المختلفة، ويمكن كذلك للحيوانات استخدام استراتيجيات تَحكّم بسيطة، والتي لا تتطلب دقة كبيرة.
لماذا روبوت على شكل أخطبوط بالتحديد؟
لا يملكُ الأخطبوط هيكلاً عظمياً، ويتمتعُ بثمانية أذرع يُمكنها الانحناء والالتفاف في أي نقطة منها. حيث يمكنه أن يتقلص ويتمدد، وأن يقومَ بشدّ نقطة ما من جسمه؛ لتطبيق القوة على أي عنصر. يستطيعُ الأخطبوطُ أن يَلّفَ ذراعه على أيّ غرض، والتقاطه ببراعة كبيرة مهما كان شكله، الأخطبوط يحتاج مثل هذه البراعة للبقاء على قيد الحياة في المحيطات التي تَعُجّ بالكائنات المفترسة. عندما يزحف الأخطبوط على طول قاع البحر، على سبيل المثال، يقوم بتنسيق تحركات أذرعه في تسلسل معقد؛ لدفع وسحب جسمه إلى الأمام.
ولذلك أرادَ فريقُ البحثِ بناءَ روبوت يمكنه تقليدُ حركاتِ الأخطبوط الرشيقة. حيثُ بدأ بدراسةِ ميكانيزم عضلات ذراع الأخطبوط، وكيف يسمحُ هذا الميكانيزم للحجم الكليّ للذراع أن يبقى ثابتًا في حين تنقبضُ العضلات الفردية ويتغير شكلها. عندما ينقصُ قطرُ الذراع، يزداد طوله، والعكس بالعكس. ليترجم الفريقُ ما شاهده في علم الأحياء إلى آلات هندسية، عمل مع بعض علماء الأحياء البحرية لأخذ القياسات لأذرع الأخطبوط ومن ثم قام بإنشاء نماذج مشابه بواسطة الحاسب. ثم قاموا بإيجاد حلول لمحركات مرنة، والتي من الممكن أن تُحاكي عضلات الحيوانات.
ما هي الحلول التي وجدها فريق البحث لمحاكاة عمل أذرع الأخطبوط؟
قاموا بصناعة أحد النماذج للعضلات الاصطناعية باستخدام موادّ بوليميرية، يمكن تحريكها بواسطة الجهد الكهربائي ((electro-active polymers (EAPs). وتتكون من طبقة من مادة مرنة بين قطبين كهربائيين. وعند تطبيق الجهد يقترب القطبين من بعضهما، مما يسبب ضغط للمادة المرنة.
وهنالك طريقة أخرى لبناء أذرع الروبوت باستخدام المحركات تعتمدُ على الموائع، بحيث تملأ السوائل أو الغازات غرف صغيرة قابلة للتمدد لتغيير شكل الهيكل الكليّ. إنّ التصميم الذكيّ لشكل الهيكل الكليّ، وترتيب الغرف الصغيرة يسمح لذراع الروبوت بأن تنثني في الاتجاهات المطلوبة، وفي نهاية المطاف يمكن للروبوت القيام بحركات أكثر تعقيدًا.
هنالك طريقة ثالثة، لكنها تشبه إلى حد ما الطريقة السابقة، ولكنها تعتمد على ملء الغرفِ بموادّ حبيبية، مثل الرمل أو البن المطحون، بدلاً من السوائل والغازات. مع هذه التقنية، والتي تدعى (Jamming)، تكون ذراع الروبوت مرنة حتى يتم سحب الهواء منها. بعد سحب الهواء يتصلب الذراع في شكل يشبه الطوب، ويمكن تشبيه الموضوع بعبوة القهوة المعبأة، حيث تكون هذه العبوة صلبة جدا لأن الهواء مسحوب من الداخل، ولكن بمجرد فتحها ودخول الهواء تصبح مرنة. ومن خلال سحب الهواء من أقسام منفصلة في تسلسل معين، يمكن للباحثين جعل ذراع الروبوتات مرنة أو صلبة وقابلة للتحرك بطرق محددة.
للمزيد عن موضوع (Jamming) يمكنكم مشاهدة الفيديو التالي:
يعمل الباحثون أيضاً على طريقةٍ رابعةٍ لصناعة نموذجٍ لعضلاتٍ اصطناعيةٍ باستخدام الخلائط ذات الذاكرة ((shape-memory alloys (SMAs). ميزةُ هذه الموادّ أنها "تتذكر" شكلها الأصلي مهما كانت التشوهات التي تتعرض لها كثيرة ومعقدة، فيكفي تعرضها لدرجة حرارة معينة أو مرور تيار كهربائي ضمنها حتى تعود لشكلها الأصلي.
نستطيع محاكاة التقلص العضلي عن طريق تعريض النوابض المصنوعة من الخلائط ذات الذاكرة، لتيار كهربائي فتتقلص وتسحب معها النسيج المكون للعضلة فتتقلص العضلة بدورها.
يهدف عمل فريق البحث في المقام الأول إلى إبراز إمكانات الروبوتات المرنة، ولا يزال هناك الكثير من العمل والبحث في مشروع الأخطبوط الروبوت لكي يكون جاهزا للزحف خارج المخبر. على سبيل المثال، يمكن تزويد الروبوت بحساسات على أطرافه، توفر التغذية الراجعة عن مكانه والمواد التي يواجها، والتي يمكن أن تؤدي إلى استراتيجيات تحكم أفضل.
وربما سنرى هذا الروبوت في يوم من الأيام يقوم بواسطة أذرعه الرشيقة بعمل الصيانة للمعدات في قلب البحر.
إنه من الممتع أن نتصور كيف سيتصرف روبوت على شكل أخطبوط مع ثمانية أذرع في البريّة، أليس كذلك؟