الاقتصاد السلوكي Behavioral Economics
الاقتصاد والعلوم الإدارية >>>> اقتصاد
لطالما قام الباحثون في المجال الاقتصادي بوضع نظرياتهم ونماذجهم مع افتراض أن الأفراد يقومون دائماً باتخاذ قرارات عقلانية يمكن التنبؤ بها، لكن عندما ننظر إلى عملية اتخاذ القرار لديهم، يتضح لنا أنهم في بعض الأحيان يتصرفون بشكل غير عقلاني ومتسرع. فعلى سبيل المثال، إذا كانت معظم المتاجر تعرض عصير البرتقال بسعر ثلاثة دولارات للعبوة، ووجدت لاحقاً أن أحد المتاجر يعرضه بسعر نصف دولار للعبوة، فإنك على الأرجح لن تشتري العبوة الأرخص رغم أن قرارك يخالف قانون العرض والطلب في علم الاقتصاد الذي ينص في هذه الحالة على ارتفاع حجم الطلب على السلعة بعد انخفاض سعرها، إلا أن قرارك نابع من شكوك بجودة العصير الأرخص، فربما يكون طعمه سيئاً، رغم أنك لم تختبر هذه الجودة بعد، لكنك اتخذت قرارك بناءً على المعلومات المتوافرة لديك، في هذه الحالة سعر منخفض مشكوك فيه. هذه القرارات دفعت الباحثين الاقتصاديين إلى دراسة العوامل النفسية التي تؤثر على اتخاذ هذه القرارات.
وفي هذا الإطار، قام الاقتصاديون بتطوير مجال بحثي جديد، ألا وهو الاقتصاد السلوكي. ويعرَف الاقتصاد السلوكي على أنه تقاطع علم النفس مع الاقتصاد، حيث يركز على العوامل النفسية والاجتماعية والعاطفية في عملية اتخاذ القرارات الاقتصادية لدى الأفراد.
كيف تأسس الاقتصاد السلوكي؟
كان الاقتصادي الشهير آدم سميث Adam Smith أول من تطرق إلى تأثير العوامل النفسية على اتخاذ القرارات في كتابه "نظرية المشاعر الأخلاقية" عام 1759، لكن أجيالاً من الاقتصاديين تجاهلوا تأثير العامل غير العقلاني على اتخاذ القرارات لأنه يُصعِّب من عملية التنبؤ بالسلوك الإنساني، إلا أن الاقتصاد السلوكي عاد إلى الأذهان في القرن العشرين بعد دراسة تأثير العوامل الإنسانية على حدوث الكساد العظيم عام 1929 ومساهمات عدد من الباحثين الاقتصاديين الذين حازوا على جائزة نوبل في الاقتصاد ومنهم البروفيسور دانييل كانيمان Daniel Kahneman الذي حاز على الجائزة عام 2002 لمساهمته في دمج التحليل الاقتصادي مع علم النفس. قام الباحث الاقتصادي الحائز على نوبل هيربيرت سايمن Herbert Simon عام 1955 بتطوير مفهوم العقلانية المحدودة Bounded Rationality، والذي يوضح أنّه يجب فهم عقول الأفراد مع الأخذ بعين الاعتبار البيئة التي نشأ فيها هؤلاء الأفراد، حيث أن قراراتهم ليست دائماً مثالية، فهناك دائماً حدود لقدرة الانسان على معالجة المعلومات نظراً لمحدودية معرفته أو قدراته الحسابية أو غيرها.
نظرية الاحتمال Prospect Theory
قام الباحث الاقتصادي السابق الذكر كانيمان Kahneman مع زميله تفيرسكي Tversky بتقديم نظرية الاحتمال عام 1979 والتي تأخذ بعين الاعتبار العوامل الإنسانية المؤثرة في عملية اتخاذ القرار، وذلك بعد أن تبين للباحثين أن الأفراد لا يتبعون دائماً نظرية "المنفعة المتوقعة" Expected Utility Theory، وبذلك شكلت هذه النظرية نموذجاً يحاكي عملية اتخاذ القرارات في ظل ظروف نفسية وعاطفية، خاصةً وأنها تنظر إلى كيفية اتخاذ القرار على أرض الواقع (في الحقيقة) على خلاف نظرية المنفعة المتوقعة التي تفسر كيف يجب اتخاذ هذه القرارات. وفي ظل هذه النظرية وجد الباحثون أن الأفراد يقدّرون (يثمّنون) الخسارة أكثر مما يقدّرون الربح، بمعنى آخر إن ألم خسارة الشيء لدى الأفراد هو أعظم من الرضى الذي يشعرون به عند حصولهم على الشيء نفسه حيث أن الأثر النفسي للخسارة أكبر من الأثر النفسي للربح، وكمثال على ذلك لنفترض انه أمام الفرد مبلغ 1000$ في ظل السيناريوهات التالية
• السيناريو الأول
1- فوز مؤكد بمبلغ 250$، أو
2- احتمال 25% بأن يتم الفوز بمبلغ 1000$ واحتمال 75% بعدم الفوز بأي شيء.
• السيناريو الثاني
3- خسارة مؤكدة لمبلغ 750$، أو
4- احتمال 75% لخسارة كامل المبلغ 1000$ واحتمال 25% لعدم خسارة أي شيء.
نلاحظ أن السيناريوهين هما في الواقع سيناريو واحد، إنّما تمّت إعادة صياغته في الحالة الثانية، وهو مفهوم "الإطار" (Framing) والذي قدمه الباحثان ويوضّح أن قرارات الأفراد سوف تختلف تبعاً لاختلاف الإطار الذي تمّ تقديم الخيارات فيه، حيث وجد الباحثان أنّه في حالة كهذه فإن الأفراد يميلون إلى اختيار (1) في السيناريو الأول مما يوحي بميلهم إلى عدم المخاطرة عندما يتعلق الأمر بربح مؤكد، لكنهم من الناحية الأخرى يميلون إلى اختيار (4) في السيناريو الثاني، أي إلى المخاطرة أكثر في محاولة منهم لتجنب الخسارة المؤكدة، رغم أن الخيار (1) هو نفسه الخيار(3) ولكن أعيدت صياغته، حيث أن ميول الأفراد هنا نابعة من فكرة أن ألم الخسارة أكبر من سعادة الفوز.
في بعض الأحيان يتم عرض الخيارات للأفراد على شكل إضافة أو حذف، على سبيل المثال قد نجد في موقع الكتروني لشراء الكومبيوترات المحمولة منتجاً معيناً ذي مواصفات معينة بمبلغ 1000$ مع إتاحة زر لإضافة ميزات أخرى على الكمبيوتر حتى يصبح سعره 1500$ في حال اختيار كافة الميزات قبل شرائه. وعلى العكس، هناك مواقع تتيح نفس المنتج كامل المواصفات بسعر 1500$ مع وضع زر لحذف بعض الميزات ليصبح سعره النهائي بعد الحذف 1000$. ولوحظ أنّ المستهلكين يميلون في الحالتين إلى الإبقاء على المنتج الذي تمّ عرضه لهم في البداية دون تعديل لعدم توفر المعلومات لديهم في معظم الأحوال عن أثر حذف أو إضافة ميزات معينة على الرضى عن المنتج في نهاية المطاف. في حالة مشابهة، فيما يتعلق برغبة الأفراد بالتبرع بأحد أعضائهم بعد الوفاة ومع المقارنة بين ألمانيا والنمسا، حيث تعتمد ألمانيا نظام Opt-in، فيقوم الأفراد بوضع إشارة X على مربع في طلب الحصول على رخصة قيادة السيارة يشير إلى رغبة الأفراد بالتبرع بأعضائهم بعد الوفاة، بينما تعتمد النمسا نظام Opt-out، فيقوم الأفراد بوضع إشارة X على مربع في طلب الرخصة يشير بعدم رغبتهم بالتبرع. وتبين النتائج أن معدل المتبرعين في ألمانيا هو 12% بينما في النمسا بلغ 99%.
إحدى الأمور التي تؤدي إلى قرارات غير متوقعة حسب نماذج الاقتصاد الكلاسيكي هو الشعور بعدم العدل، ومن أهم التجارب على ذلك هي تجربة لعبة القرار النهائي "The Ultimatum Game"
يوجد في هذه اللعبة لاعبين اثنين ومبلغ 100$، يسمى اللاعب الأول "The Proposer" أي الشخص الذي يقوم بالاقتراح، أما اللاعب الثاني فهو متخذ القرار النهائي. يقوم اللاعب الأول باقتراح قسمة معينة للمبلغ بينه وبين اللاعب الثاني، وفي حال عدم موافقة اللاعب الثاني على اقتراح اللاعب الأول لا يحصل أي من اللاعبين على شيء، بينما في حال موافقته، فيتمّ قسمة المبلغ حسب الاقتراح المذكور. وتقريباً في جميع الحالات التي يقترح فيها اللاعب الأول قسمة المبلغ مناصفةً، يقبل اللاعب الثاني بهذا الاقتراح. لكن في معظم الحالات التي يقترح فيها اللاعب الأول قسمة غير متساوية، على سبيل المثال 90$ للاعب الأول و10$ للاعب الثاني، يرفض فيها اللاعب الثاني الاقتراح في شعور منه بعدم عدالته، حيث يكون اللاعب الثاني مستعداً للتخلي عن مبلغ 10$ مقابل معاقبة اللاعب الأول على جشعه، رغم أن الاقتصاد التقليدي يشير إلى وجوب قبول اللاعب الثاني بأي عرض يقدمه له اللاعب الأول حتى لو كان دولاراً واحداً.
هل يعني كل ذلك أن نظريات الاقتصاد التقليدي خاطئة؟
بالطبع لا، إن نظرية الاقتصاد السلوكي لا تعني أن كل ما نعرفه عن الاقتصاد التقليدي هو خاطئ، إنما تسعى إلى فهم متى ولماذا يقوم الأشخاص بالتصرف بشكل مغاير لما تفسره نماذج الاقتصاد التقليدي، وبالتالي هي لا تقلل من أهمية الاقتصاد التقليدي، إنّما تضيف طبقة أخرى من التعقيد عليه. كما لابد من الإشارة إلى أن الاقتصاد السلوكي هو مجال حديث نسبياً، وكما في الكثير من المجالات، مازال بحاجة إلى صقل وإجراء المزيد من الأبحاث.
المصادر
هنا
هنا
هنا
هنا
هنا
هنا
هنا
هنا
هنا
هنا