اسمنت صديق للبيئة والبشرية!
العمارة والتشييد >>>> التشييد
يُعتبرُ الإسمنتُ عاملاً ملازماً للتَّقدُّمِ البشريِّ، فقد شاعَ انتشارهُ في العالمِ لدرجةٍ صار فيها من المسلَّمات ضمن عملية البناء والإعمار إلا أن ما يرافق إنتاجه من إطلاق كمياتٍ هائلة من ثاني أكسيد الكربون يستوجب منا أن نبحث عن حلٍ صديقٍ للبيئة، فالأجيال المقبلة تعتمد على ذلك.
حافظت البشريَّةِ على معدَّلِ النموٍّ الحاليِّ بفضل قدرتها على إنتاج الإسمنت، وينتج العالم سنويَّاً ما يقاربُ ال5 ملياراتِ طنٍّ من الإسمنتِ البورتلنديِّ ، وهو المادَّةُ المستخدمةُ لجمعِ مكوِّناتِ الخرسانةِ، وهذا يقابلُ ربعَ طنٍّ لكلِّ إنسانٍ على وجهِ الأرضِ إلا أن الحفاظَ على هذا المستوى من الإنتاج سيترتب عليه آثارٌ مستقبلية سلبية على البيئة.
حيث يتمُّ طرح طنٍّ من غازِ ثاني أكسيدِ الكربون في الغلافِ الجوِّيِّ مقابلَ كلِّ طنٍّ من الإسمنتِ البورتلنديِّ يتمُّ صنعهُ، وهذهِ الكمِّيَّةُ تمثِّلُ حوالي 7% من مجمل انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون والذي يمثّل بدوره 82% من الغازاتِ الدَّفيئةِ ككلٍّ.
ومع تزايدِ الطَّلبِ على هذهِ المادَّةِ وبخاصَّةٍ في الدُّولِ النَّامية، يحاول العلماءُ تخفيضَ الآثار السلببية لصناعةِ الاسمنت، وذلك عن طريقِ إيجادِ وسائلَ أُخرى للإنتاجِ تسمحُ باحتجازِ غازِ ثاني أكسيدِ الكربون المنطلقِ وإعادةِ استخدامِ هذا الغازِ في الصِّناعةِ نفسِها.
تمرُّ صناعةُ الإسمنتِ البورتلنديِّ بعدَّةِ مراحل تم شرحها في مقالنا السابق:
هنا
اثنتانِ من هذهِ المراحلِ مسؤولةٌ عن إطلاقِ غازِ ثاني أكسيدِ الكربون:
أولى هذهِ المراحلِ هي مرحلة التكليسِ Calcination وهي عمليَّةٌ يتمُّ فيها تسخينِ الحجرِ الكلسي إلى درجةِ حرارة °750 درجة سلسيوس فيتفكك إلى أكسيدِ الكالسيوم وهي مادَّةٌ أكّالةٌ وغيرُ مستقرَّةٍ وغازَ ثاني أكسيدِ الكربون .
أما المرحلةُ الثَّانيةُ المسؤولةُ عن نشرِ ثاني أكسيدِ الكربون فهي مرحلةٌ لامباشرة يتمُّ فيها تسخينُ أكسيد الكالسيوم مع الرَّملِ السِّليكاتيِّ إلى الدَّرجةِ 1500 سلسيوس لينتجَ عن تفاعلِهما السِّليكاتُ ثلاثيَّةُ الكالسيوم، وهي المادَّةُ الرَّئيسيَّةُ بالإسمنتِ والَّتي تتصلَّبُ عند خلطها بالماءِ معطيةً الخرسانة. وينتشر ثاني أكسيد الكربون بفعل حرق الوقود اللازم لعملية التسخين أثناء هذه المرحلة.
تتسبب المرحلة الأولى بنشرِ 65% من مجمل ثاني أكسيد الكربون الذي يتم إطلاقه بينما تتسبَّبُ المرحلةُ الثَّانيةُ بالـ 35% المتبقية.
أثبتت البحوثُ الجديدةُ أنَّهُ من الممكنِ احتجازُ غازِ ثاني أكسيدِ الكربون المنطلقِ من عمليةِ التَّكليس وإعادةُ خلطهِ مع أوكسيدِ الكالسيوم لإعطاءِ الحجرِ الكلسيِّ، مما يخلقُ حلقةً تمنعُ طرحَ غازِ ثاني أكسيدِ الكربون في الجو. ويتم بذلك تصنيعِ الإسمنتِ بطريقةٍ مشابهةٍ لتشكُّلِ الهياكلِ الخارجيَّةِ للمرجانِ والرَّخويَّاتِ والأصدافِ.
تمَّ اختبار عيناتٍ اسمنتيَّةٍ تم تصنيعها وفقاً لهذه الطريقة وبرغمَ صِغرِ حجمِ هذهِ العيناتِ نسبةً للكتلِ الإسمنتيَّةِ الكبيرةِ إلَّا أنَّ نتائجها كانت ممتازةً حيثُ استغرقتِ العملية بأكملها ثلاث ساعاتٍ ، في حين تستغرقُ عيناتُ الإسمنتِ البورتلنديِّ العاديَّةُ 28 يوماً للحصولِ على مقاومتها شبهِ النِّهائيَّةِ.
قامتْ شركاتٌ عدَّة بالبحثِ عن سبلٍ لاستثمار هذهِ الدِّراساتِ وكان الأبرزَ منها شركتا Calera و Novcem.
عمليَّةُ المعالجةِ في شركةِ كاليرا:
تعملُ شركةُ كاليرا الأمريكيَّةُ على تحويلِ الأبخرةِ المتصاعدةِ من مداخنِ المصانعِ إلى موادَّ أوَّليَّةٍ لصناعةِ الإسمنتِ بواسطةِ عمليَّةٍ تُدعى "تعدينُ الكربوناتِ عبرَ التَّرسيبِ المائيِّ". Carbonate Mineralization by Aqueous Precipitation
تبدأُ العمليَّةُ بإمرارِ هذهِ الأبخرةِ عبر مياهِ بحرٍ معدَّلةِ القلويَّةِ ممَّا يحوِّلُ غازَ ثاني أكسيدِ الكربون في الأبخرةِ إلى كربوناتِ الكالسيوم أو كربوناتِ المغنزيوم وذلك نظراً لغنى مياهِ البحرِ بالكالسيوم والمغنزيوم.
يتبعُ ذلكَ ترسيبُ هذهِ الكربوناتِ وتجفيفها باستخدامِ حرارةِ المداخنِ نفسها دون الحاجةِ لحرقِ الوقودِ.
وبهذا تنتهي العمليَّةُ معطيةً كتلاً يمكنُ أن تعملَ كحصويَّاتٍ أو يتمَّ طحنها وتعملَ كإسمنتٍ.
وتخفِّضُ هذهِ العمليَّةُ غازَ ثاني أكسيدِ الكربون من الأبخرةِ بنسبةِ 70-90% إضافةً إلى احتجازِ 95-98% من ثاني أكسيدِ الكبريتِ الذي تتضمنه الأبخرة مع ملوِّثاتٍ أُخرى كالزِّئبقِ والنتروجينِ والأمونيا.
وتتسبب هذهِ العمليَّةُ بتجريد مياهِ البحرِ من الكالسيوم والمغنزيوم ممَّا يجعلها مثاليّة لتكنولوجيا تحليةِ مياهِ البحرِ كما أنَّها آمنةٌ تماماً ليتم ضخّها مجدَّداً إلى المحيطِ.
العقبةُ الوحيدةُ في وجهِ هذهِ الشَّركاتِ هي قبولُ المهندسين للاستخدامِ العمليِّ لهذهِ المنتجاتِ، فمجالُ الإنشاءاتِ مجالٌ محافظٌ جدَّاً، وقد تطلَّبَ اتِّحادُ الإسمنتِ البورتلنديِّ PCA 25 سنةً لتغييرِ المعاييرِ والسَّماحِ بإضافةِ 5% من الحجرِ الكلسيِّ لنموذجِ الإسمنتِ المُعتمدِ، فالحركةُ في هذا المجالِ بطيئةٌ جداً.
تأملُ Calera بتخطِّي هذهِ العقبةِ بمحاولةٍ أوَّليَّةٍ هي إنتاجُ خليطٍ من إسمنتِ ثاني أكسيدِ الكربون والإسمنتِ البورتلنديِّ العاديِّ علماً بأنَّ هذهِ المادَّةَ لن تخزِّنَ أيَّ غازاتٍ دفيئةً زائدةً، إلا أنها خطوةٌ على الطريق السليم.
عمليَّةُ المعالجةِ في شركةِ نوفاسيم:
أوجدتِ الشَّركةُ البريطانيَّةُ طريقةً مختلفةً عن كاليرا مبتعدةً عن مياهِ البحرِ، حيث تستخدمُ سيليكاتِ المغنزيوم كأساسٍ لمنتجها الإسمنتيِّ بعكسِ الإسمنتِ البورتلنديِّ الَّذي تكونُ مادَّتهُ الأساسيَّةُ هي الكالسيوم.
فعبرَ عمليَّةِ معالجةٍ منخفضةِ الحرارةِ والكربون يتمُّ تحويلُ هذهِ السِّليكاتِ إلى أكسيدِ المغنزيوم الَّذي ينتهي كإسمنتٍ صديقٍ للبيئةِ.
تدعي الشركة أنَّ هذهِ الطريقةَ قادرةٌ على احتجازِ ثلاثةِ أرباعِ الطَّنِّ من ثاني أكسيدِ الكربون مقابلَ كلِّ طنٍّ من الإسمنت يتم استخدامه.
لقد جعلَ الانتشارُ الكبيرُ للإسمنتِ وعدمُ قدرةِ البشريَّةِ على الاستغناءِ عنه الكثير من الشركات تتطلَّعُ إلى سبلٍ أقلَّ ضرراً لصنع هذهِ المادَّةِ، معتبرةً ذلك استثماراً مستقبليَّاً ناجحاً نظراً للآثارِ السَّلبيَّةِ للطَّريقةِ الحاليَّةِ والَّتي سيكونُ الاستمرارُ بها خطِراً على البيئة. ولربما كان علينا أن نأخذ بالاعتبار مصدر المواد الأولية التي نستخدمها في البناء والتأثيرات البيئية لإنتاجها إذا أردنا أن نسهم في حفظ كوكبنا للأجيال المقبلة.
المصادر:
هنا
هنا
هنا