عندما تتحدث الموسيقى بلغة الرّياضيات (الجزء الثاني)
الرياضيات >>>> الرياضيات
ولكن لماذا يصدر عن هذه النّغمات الثّلاث فيما إذا عزفناها معاً صوتٌ جميلٌ؟ لنلقي نظرةً على الشّكل التّالي:
Image: Syrian Researchers
نلاحظ أنّ بعض الموجات X الموجودة في الشّكل تصطفُّ فوق بعضها تماماً، وذلك لأنَّ أربعَ فتراتٍ زمنيّةٍ خاصّةٍ بـ "دو" وخمس فتراتٍ زمنيّةٍ لـ "مي" و ستِّ فتراتٍ زمنيّةٍ لـ "صول" جميعها متكافئة. إذاً حوالي كل 0.015 ثانيّة نلاحظ أنّه سيتشكل صفٌّ من الموجات X.
وبالرّغم من أنّ بعضَ الموجاتِ X الأخرى لا تصطفُّ جيّداً، لكن يوجدُ عددٌ لا بأس به منها يشكِّلُ صفوفاً من الموجاتِ فوق بعضها، وهذا المزيج من التّنوع والاتّساق هو تماماً المطلوب لتشكيل كورد الـ "سي" ماجور، وهو واحدٌ من أكثرِ النّغماتِ المألوفةِ لكثيرٍ منَّا كما أنّه يشكِّلُ الأساسَ للعديدِ منَ الألحانِ لأصنافِ الموسيقى المتنوعةِ انطلاقاً من ألحانِ مندلسون وحتّى ميتاليكا. إذاً للحصول على أنغامٍ جميلةٍ ومحبّبَةٍ ما علينا إلّا أن نبتدعَ طُرُقاً لمحاولةِ جعل حزم الهواء X تصطفُّ فوق بعضها في وقتٍ واحدٍ لعدَّةِ علاماتٍ موسيقيّةٍ.
الأوكتاف:
لماذا تتلاءم بعض النّغمات كالـ "دو" والـ "صول"، ولا تتلاءم أخرى كالـ "دو" والـ "فا دييز"؟ من الّذي يحدِّدُ أيِّ النّغماتِ الّتي يمكن أن تصطفَّ موجاتُ الـ X فوق بعضها وأيّها لا؟ لحسن الحظ الرّياضيات هي التّي ستجيبنا على كلِّ هذه الأسئلة.
لنتذكّر معاً سابقاً عندما قلنا بأن الـ "دو" في الأوكتاف الثاني ( High C ) تملك تردُّداً يساوي ضعفَ تردُّدِ الـ "دو" في الأوكتاف الأساسيّ ( Middle C ) كما أنّها تتوضّعُ أعلى منها بمقدارِ اثني عشر نصف بُعدٍ (النصف بُعد هو وحدة قياس مسافة موسيقية)، فهناك إحدى عشر نغمة موجودة بين "دو" على الأوكتاف الأساسيّ ونظيرتها الموجودة على الاوكتاف الثاني كالـ "دو دييز" وَ "ري" وَ "ري دييز" وَ "مي" وغيرها، فما هي تردّدات تلك النّغمات؟ وكيف يمكن لها أن تتلاءم؟
ضبط الموسيقيون القدماء – في القرن السّادس قبل الميلاد – بشكلٍ خاص كلَّ مفتاحٍ على حدى. فعلى سبيل المثال عندما نعزف بمفتاح الـ "دو" تكون النّغمة "صول" مضبوطةٌ بحيث يكون تردّدها مساوٍ تماماً لـ 3/2 من تردّد الـ "دو". وهذا سيسمح لموجات الـ X بأن تصطفَّ فوق بعضِها كما ذكرنا سابقاً. وقد تطلَّب هذا عدةَ أنواعِ دوزانٍ مختلفةٍ وذلك بحسب النّغمة المرادِ عزفها أو وفقاً لأيِّ مفتاحٍ تمَّت كتابة اللّحن.
ولكن خلال المائتي عامٍ الماضيتين تمَّ استخدام نظامٍ مختلفٍ تماماً للدّوزان وهو نظامٌ عالميٌّ، يسمى هذا النّظام "equal tempering" ويقوم هذا النّظام بفصلِ العلامات الموسيقيّةِ الاثني عشر الموجودة في الأوكتاف عن بعضها البعض بشكلٍ متساوٍ، وبهذه الطّريقة يمكننا استخدام طريقة دوزانٍ واحدةٍ بغضِّ النّظر عن المفتاح الّذي تمَّ اختياره أو الموسيقى الّتي يتمُّ عزفها.
يعتبر الـ "Equal tempering" وسيلةً لكي نقسم الأوكتاف الواحد إلى اثنتي عشر نصف بُعدٍ متساوٍ، وبما أنَّ الأوكتاف يعبِّرُ عن ضرب التّردّد بمعاملٍ قدره 2، فإنّ كلَّ نصفِ بُعدٍ يعبّرُ عن ضرب التّردّد بالجذر الثّاني عشر للعدد 2 – أي عندما نضرب الـ 12 رقم ببعضهم البعض سينتج لدينا 2- وهذا العدد هو 1.059463 – أي إن ضربنا 1.059463 بنفسه 12 مرة سيكون الجواب 2-.
إذاً ماذا يعني هذا؟ إذا ابتدأنا بالـ "دو" في الأوكتاف الأساسيّ، فإن الـ "دو دييز" والّتي تبعد عن سابقتها نصف بُعدٍ واحدٍ، فإنّ تردّدها أكبر من الـ "دو" بـ 1.059463 مرة. وأما الـ "ري" الّتي تبعد عن الـ "دو" بنصفي بُعدٍ فإنّ تردُّدها أكبر من سابقتها بـ (1.059463 × 1.059463) مرة - أو نقول 1.122462 مرة -.
وبالاستمرار على هذا المنوال سنصل إلى الـ "صول" والّتي تبعد عن الـ "دو" بسبعِ أنصافِ بُعدٍ، فيكون تردُّدها أكبر من الـ "دو" بـ 1.498307 مرة.
ولكن لحظة !! لو أمعنَّا النَّظرَ في القيمة 1.498307، فهي تكاد تكون مساويةً لـ 1.5 أو 3/2، وهذا يفسِّرُ بالضّبط لماذا يحدث اصطفافٌ في الموجات X كلَّ ثلاث فتراتٍ زمنيّةٍ من "صول" وفترتان زمنيّتان من "دو"، فالنّغمتان تملكان نسبةً جيّدةً وبسيطةً وهي 3/2 مما يجعل وقعها على الأذن جميلاً.
وكذلك الأمر بالنّسبة للـ "مي" فإنَّ ترددها أكبرُ من تردُّدِ الـ "دو" بـ 1.259921 مرة.وهذه النّسبة قريبة جداً للرّقم 1.25 أو 5/4. وهذا يفسِّرُ لماذا يحدث اصطفافٌ للموجاتِ كلَّ خمسِ فتراتٍ زمنيّةٍ للـ "مي" مع أربعِ فتراتٍ زمنيّةٍ للـ "دو".
أحد الأمثلة الأخرى هو "فا" وهي ذات تردُّدٍ أكبر من تردُّد الـ "دو" بـ 1.334840 مرة. وهذا قريب جداً للعدد 1.333333 أو النّسبة 4/3 وهذا يفسِّرُ لماذا يتناغم الـ "فا" والـ "دو" بشكلٍ جميلٍ.
من النّاحية الأخرى تملك "فا دييز" تردُّداً يكبر تردد الـ "دو" بـ 1.414214 مرة، ولكنَّ هذا الرّقم لا يكافئ أيَّ نسبةٍ بسيطةٍ كالّتي ذكرناهم سابقاً (على الرّغم من أنّها ليست بعيدةً جداً عن النّسبة 7/5 ولكن كما ذكرنا سابقاً فسبع فتراتٍ زمنيةٍ تُعتبر مدةً طويلةً للانتظار) وهذا ما يفسِّر عدمَ انسجام النّغمتين "فا دييز" وَ "دو". إذاً لمعرفة أيِّ النّغمات تنسجم مع بعضها وأيُّها لا، لن نحاول أن نحزر ذلك أو نعتمد على التّجريب وقياس الخطأ، ولا حتّى دراسة النّظريات الموسيقيّة لعدةِ سنواتٍ، كلُّ ما علينا فعله هو أن نتذكّر مبدأ الـ equal-tempering، ونقوم بضرب قيمٍ متعدّدة من العدد 1.059463 ببعضها ونرى أيٌّ منها ينتج عنه نسبة جيدة.
المفاتيح الموسيقية:
يدور دائماً نقاشٌ بين خبراءِ الموسيقى حول أيِّ مفتاحٍ سيعزفون به، فتغيير مفتاحِ الأغنيةِ سيؤدّي لصعود أو هبوط جميع العلاماتِ الموسيقيّةِ الموجودةِ بنفس المقدار، وهذا قد يجعل الأغنيةَ مناسبةً أكثرَ ليتمَّ عزفُها من قِبَلِ بعضِ الآلات الموسيقيّةِ دوناً عن أخرى. أو مريحةٍ أكثرَ للمطربِ الّذي يُغنّي، فتغييرُ المفتاح لا يؤثّرُ أبداً على جمالِ الموسيقى من أيّ ناحيةٍ ولا يغيّرها، بل تبقى ذاتها ولكنها أصبحت تملك شدّةً أعلى أو أخفض.
ولكن كيف يعقل ذلك؟ كيف يمكن للأغنية أن تكون ذاتها ولكنها مختلفة؟ كيف يمكننا أن نغيّر الشّدّةَ بدون أن تتغير النّغمة؟
تبدو الإجابة واضحة من خلال فهمنا للتّردادت، فإن أردنا للنّغمات أن تكون عالية ما علينا إلّا أن نضاعف التّردد - بمعنى آخر نزيد حزم الـ X فتصبح أقربَ لبعضها. ولكن لتبقى الأغنية ذاتها يجب أن نحافظ على "العلاقات" بين الموجات X الّتي تصل إلى الأذن، أي أّننا سنقوم بضغطِ كلِّ سطرٍ بالمعامل نفسه، أي أنّنا سنرفع كلَّ نغمةٍ موجودةٍ بنفس المقدار من نصف البُعد.
على سبيل المثال لنفترض أنّنا نعزف أغنيةً بمفتاح الـ "سي" باستخدام كورد الـ "سي" ماجور الّذي يتكون من النّغمات "دو" وَ "مي" وَ "صول" كما ذكرنا سابقاً، ولكنّنا أردنا أن نعزف الأغنيةَ بمفتاح الـ "مي" وباستخدامِ كورد "مي" ماجور فكيف السّبيل لتحقيق ذلك؟
لكي ننتقل من الـ "دو" للـ "مي"علينا أن نرفع الـ "دو" بمقدارِ أربعِ أنصافِ بُعد أي نضرب تردُّدَ كلٍّ منها بـ 1.259921 ثمَّ نطبّق ذلك على النّغمتين الباقيتين وبالنّتيجة تتحول النّغمات من "دو" إلى "مي"، وَمن "مي" إلى "صول دييز" وَمن "صول" إلى "سي". ويكون شكل حزم الهواء نتيجةً لذلك كما يلي:
Image: Syrian Researchers
وهكذا نكون قد حصلنا على كورد "مي" ماجور والّذي يشبه الـ "سي" ماجور ولكنَّه أعلى منه بأربعِ أنصافٍ بُعدٍ ( أي معاملٌ قدره 1.259921)، ويملك هذا الكورد لطافةَ وجمالَ كورد الـ "سي" ماجور ذاتها ويختلف عنه فقط بأنّه ذا شدةٍ أعلى. وبذلك نكون قد انتقلنا من المفتاح "دو" للمفتاح "مي" بنجاح.
إذاً هنالك العديد من أوجه الشّبه بين الكورد "مي" ماجور والمكوَّن من ("مي" وَ "صول دييز" وَ "سي") وكورد الـ "سي" ماجور والمكوّن من ("دو" وَ "مي" وَ "صول")، فكلُّ أربعِ حزم X من السّطر الأوّل وخمسِ حزم من السّطر الثّاني وستِّ حزمٍ من السّطر الثّالث تصطفُّ فوق بعضها تماماً، ويتكرر ذلك كلِّ فترةٍ زمنيّةٍ صغيرةٍ، ولذلك يملك كلا الكوردان صوتاً عذباً.
ولكن بالنسبة لـ "مي" ماجور يحدث هذا الأمر بشكلٍ أسرع، فتصطفُّ الحزم X في كورد الـ "مي" ماجور كلُّ 0.015 ثانية، بينما تصطفُّ الحزم لتشكِّلَ صفَّاً واحداً في كورد "مي" ماجور كلَّ 0.012 ثانيةٍ، وهذا ما يفسّّر أنّه يبدو أعلى، وغالباً ما يحب المطربون هذه الميزة.
إذاَ إن كنتَ ترافقُ إحدى نجماتِ الغناءِ في حفلاتِها وطلبَتْ منكَ أثناء تأديّتها لأغنيةِ الجاز : لنقم بذلك مرّة ثانية ولكن هذه المرة لتكن بالمفتاح "مي" بدلاً من "دو"، فلا تجزع، كل ما عليك فعله هو أن ترفع جميع النّغمات بمعاملٍ قدره 1.259921، ثمّ انتظر تصفيقاً حاراً من الجمهور.