مراجعة رواية (مذكرات الأرقش): عندما تعينك الوحدة على كشف خفايا النفس البشرية
كتاب >>>> روايات ومقالات
تأخُذنا الرواية في رحلةٍ داخل مذكراتِ الأرقش، ولمّا كانت المذكراتُ الجزءَ السريّ من شخوصنا واعترافاتنا الخجِلة على الورق، كانت مذكراتُ الأرقش لقاءً مع الكون الذي يقبع داخل كلٍّ منّا، أسطرٌ صافيةٌ كروحه النقيةِ لا سوادَ فيها سوى سوادِ الحبر، مليئةٌ بالنقاشات حول قيم الحياة وفلسفات العقل البشري.
حيثُ يختارُ الأرقش الصمت والعزلة عن بني البشر لأسبابٍ تعود لذاكرته المهترئة، فهو لا يتذكر مَن هو أو ما أصله وجلّ ما يدركه أنّه وعند انتهاءه من عملهِ في المقهى، يفتح دفتره الصغير ليبدأ بكتابة أفكاره التي تتفجر حبراُ على الورق!
في غرفةٍ حقيرة تقع وراء المقهى، يُشاركهُ بالسكن قطٌ ويزورهُ ليلاً خيالُ امرأة تتوشّح بالأسرارِ والفجيعة، في عزلةِ هذه الغرفة وسكون الليل، تصفو جميعُ الرؤى أمام عينِ بصيرته فنراه يَتلمّسُ حقائقَ الطبيعةِ والحياة متحاوراً مع الموت تارة ومع نفسه تارة أخرى، وبين سطورهِ البسيطة السلِسلة يصفُ كرمَ الأرض الذي تجودُ به على سكانها من خيرات وجمال، ثم يُحدثنا عمّا يعطيه القدر لنا من فرصٍ للتعلم ويتأسفُ على ضيقِ أفقِ البعض كمالك المقهى "شين" كما أسماهُ في مذكراتهِ، مُمجداً قوّة العمل العظيمة التي تَدفعنا كلّ يومٍ نحو الأمام.
نلاحظُ أن صمتَ الأرقش مصدرهُ التفكير العميق بكل ما يحيطه، وما يتخطى الظاهرَ للعينِ أيضاً، فهو يَتحدثُ مع البحر بعد أن وجدَ صفاتٍ متشابهةٍ بينهما، ويتحاورُ مع الموت ليعرفَ كيفية اختيار الموت لزبائنه.
إن الأرقش يطرح أسئلةً كالجميع، يُجاوبُ بعضها بنفسه ويعطينا مواعظَ في كثير من القيم المنسيّة، يَجدُ الحلول للتخلصِ من الحروب والطمع والكُره، واصفاً السِلم والقناعة والحب!
يَعرض آرائهُ بكلِّ ما تحتويه الحياة من متناقضاتٍ شتّى، إيمانٌ وإلحاد، ولادةٌ وموت، حزنٌ وفرح، فهو _الأرقش_ ذو الوجهِ المنخورِ كقطعةِ خشبٍ غزاها السوس، قد تخلى عن المدينة والناس بعد إدراكهِ أنَّ "الكلام مزيجٌ من الصدق والكذب، أما السكوت فصدقٌ لا غشّ فيه"، اختار العزلةَ والصمت لأنّهُ قد ملّ ضعف بصيرةِ البشر وحدودَ أفقهم وضاق ذرعاً بذاكرتِهم التي لم تتعلّم شيئاً من التاريخ، وما زالت تُعيدُ أخطاءها يوماً وراء آخر!
في مذكّرات الأرقش لا وجود للأسماء أو الأمكنة، مجردُ أيام الأسبوعِ المتوالية كعنونةٍ لما يخطّه في تلك الأيام، وكثيراً ما لم يجد سوى السكوت، يُطلُ علينا "سنحاريب" أحد زبائن المقهى الدائمين الذي اتفق الجميع على مناداته بهذا الاسم دون معرفة اسمه الحقيقي، يطل علينا بهدوئهِ المحببِ لقلبِ الأرقش وغموض قصّتهِ وصمته شبه الدائم!
وللحُب الروحي حبكةٌ تُسدل الستائر عنها آخر الرواية، لتُلخّص رأي الأرقش/ الكاتب في نوع أسمى من الحب لن يعرف القارئ له من مثيل.
بعد الانتهاء من هذه الرواية ستَتمنى لو توجد نسخة منها لدى كلّ شخص في هذه المعمورة، لأنها استردادٌ لحقوق الطبيعةِ والأرض، لأنها لهفةُ البشر للانعتاق من عذابات الأرض، فيها المُثل والمبادئ التي يجب أن نضعها نُصبَ أعيننا حتى نصل إلى الخلاص!
ولعلّ أبلغّ طريقةٍ للتعبير عن مكنونات النفس هي العبارة التي يَختم بها الأرقش مذكراته "لذاك سكتُّ والنّاس يتكلّمون"
معلومات الكتاب:
الكتاب: مُذكّرات الأرقش.
اسم الكاتب: ميخائيل نعيمة.
دار النشر: مؤسسة نوفل.
الطبعة الأولى: عام 1998 م.
عدد الصفحات: 147.