دراسة وراثية حديثة تعيد كتابةَ التاريخِ التطوريِّ للجُدَريّ
البيولوجيا والتطوّر >>>> التطور
يقول الدكتور هيندريك بوينار Hendrik Poinar، وهو المؤلّفُ المشاركُ من جامعةِ McMaster والمعهدِ الكنديِّ للبحوثِ المتقدمةِ: "لم يفهمِ العلماءُ بعدْ كيف ظهرَ الجُدَريُّ، ومِن أين جاءَ وكيف انتقلَ إلى الإنسانِ، وهذا البحثُ يثير بعضَ الاحتمالاتِ المثيرةِ للاهتمامِ حولَ عمرِ هذا المرض".
يُعدّ مرضُ الجدريِّ أحدَ أخطرِ الأمراضِ الفيروسيةِ التي تصيب الإنسانَ، والذي يملك مكانةً فريدةً في تاريخِ الطبّ. فقد كان أولَ مرضٍ يطوَّرُ له لقاحٌ، وما زال المرضَ البشريَّ الوحيدَ الذي يُقضى عليه بالتلقيح. جرى الإبلاغُ عن آخرِ حالةٍ طبيعيةٍ للجُدَريِّ في عامِ 1977. وفي عامِ 1980، أعلنتْ منظمةُ الصحةِ العالميةِ القضاءَ رسمياً على مرضِ الجُدَري.
كان يُعتقدُ لمدةٍ طويلةٍ أنّ الجدريَّ قد ظهرَ عند البشرِ قبلَ آلافِ السنينِ في مِصرَ القديمةِ والهندِ والصينِ، إذ تشيرُ بعضُ الرواياتِ التاريخيةِ إلى أنّ الفرعونَ رمسيسَ الخامسَ - الذي تُوفِّيَ في عام 1145 قبلَ الميلادِ- قد عانى من الجُدَري.
وفي محاولةٍ لفهمِ التاريخِ التطوريِّ لهذ المرضِ على نحوٍ أفضلَ، قام الدكتور بوينار والمؤلفون المشاركون بعزلِ الحمضِ النَّووِيِّ المجزَّأِ بدرجةٍ كبيرةٍ من البقايا المحنَّطةِ لطفلٍ ليتوانيٍّ يُعتقد أنه تُوفيَ بين عامَي 1643 و1665، وهي الفترةُ التي جرى فيها توثيقُ تفشِّي مرضِ الجدريِّ في جميعِ أنحاءِ أوروبا، مع زيادةٍ في معدَّلِ الوَفَيات.
تمّ استخلاصُ الحمضِ النوويِّ DNA للجدريِّ وسَلسَلتُه، كما أُعيدَ بناءُ الجينومِ القديمِ الذي يُعدُّ واحداً من أقدمِ الجينوماتِ الفيروسيةِ حتى الآن، ولكن لم يكنْ هناك أيُّ مؤشِّرٍ على وجودِ فيروسٍ حيٍّ في العيّنةِ، مما يعني أنّ المومياواتِ لم تكن مُصابة.
قام الفريقُ بمقارنةِ سُلالةِ القرنِ السابعِ عشَر مع سُلالةٍ من بنكِ البياناتِ الحاليِّ للعيّناتِ التي يرجع تاريخُها إلى عام 1940 وحتى تاريخِ القضاءِ عليه في عامِ 1977. ومن الجديرِ بالملاحظةِ أنّ العملَ يُظهرُ حدوثَ تطورِ فيروسِ الجدريِّ منذ فترةٍ أقصرَ مما كان يُعتقد سابقاً، حيث أنّ الفيروسَ بجميعِ سلالاتِه لم يَظهرْ قبلَ عامِ 1580.
وقال البروفسور إيدّي هولْمز Eddie Holmes (وهو المؤلف المشارك من جامعة سيدني في أستراليا): "تحددُ هذه الدراسةُ الساعةَ التطوريةَ للجدريِّ في نطاقٍ زمنيٍّ أكثرَ حداثةً، على الرغمِ من أنّ المعلوماتِ بشأنِ الحيوانِ الذي يُعتبر الحاضنَ الحقيقيَّ لفيروسِ الجدريِّ قبلَ انتقالِه للإنسانِ لا تزالُ غيرَ واضحة".
إضافةً إلى ذلك، لا تزالُ السلالاتُ الفيروسيةُ للجدريِّ البشريِّ غيرَ مستندةٍ إلى عيناتٍ حالياً؛ فحتى أقربُ سُلالتَين من الجُدَريِّ (جدريِّ الجربوعِ وجدريِّ الجَمَل) تربطُهما صلةٌ بعيدةٌ جداً، الأمرُ الذي يستبعدُ كونَ أحدِهما أصلاً للجدريِّ البشريِّ، مما يشير إلى أنّ الحاضنَ الحقيقيَّ لا يزال مجهولاً أو حتى منقرضاً.
اكتشف العلماءُ أيضاً أنّ فيروسَ الجدريِّ تطورَ إلى سلالتين، هما الفيريولا الرئيسةَ والثانويةَ، وذلك بعد أن قام الطبيبُ الإنجليزيُّ إدوارد جينَر Edward Jenner بتطويرِ لقاحٍ في عامِ 1796، إلا أنّ انتشارَ كلتا السُّلالتين قد تراجعَ نتيجةَ جهودِ التحصينِ العالميةِ ضدَّ هذا المرض.
يتوافقُ تاريخُ سلَفِ السلالةِ الثانويةِ مع تجارةِ الرقيقِ عبرَ المحيطِ الأطلسيِّ، والتي يُحتمل أنْ تكونَ مسؤولةً جزئياً عن نشرِه في أنحاءِ العالم. وعلى الرغمِ من أنّنا تمكّنّا من القضاءِ على الجدريِّ عند البشرِ، إلا أننا لا يمكن أن نتكاسلَ أو نتجاهلَ كيفيةَ تطورِه واحتمالَ عودةِ ظهورِه، حتى نفهمَ أصولَه تماماً.
المصدر:
هنا
الورقة البحثية:
هنا