مُراجَعةُ روَايَة "قصَّة الخَادمَة" .. لا تَدَعي السَّفَلةَ يحبطونكِ.
كتاب >>>> روايات ومقالات
هذه الحقيقةُ الأخيرةُ هي الأساسُ الّذي اعتمدَتْ عليه الكاتبة "مارغريت أتوود" في نحتِ تحفتها الأدبية "حكاية الأَمَة" الّتي تقع أحداثها في مستقبلٍ تخيُّليٍّ للولايات المتحدة الأمريكية؛ مستقبلٍ تختلط فيه أحداثُ واقعِنا مع الكارثة الّتي حلّت بهم، فيرسمُ بواسطةِ صوتِ المرأةِ المدعوَّةِ "أوفريد" أو "التابعة لفريد" ما تعاني منه النساءُ في عصرنا الحالي، وما عاناه الجنسُ الأنثويُّ عبر التاريخ.
إنَّ الخصوبةَ في تدهور، واللومُ يقعُ على النسوة اللواتي تركْنَ واجبهنّ المقدّس "الإنجاب" من أجل الدخول في عالم الرجل، وعندما بحثَ الناسُ عن سبيلٍ للخلاص وجدوه في النظام الأبويّ المرسوم في الإنجيل، ومن هنا قامَتْ ولايةُ جلعاد؛ وجلعاد هو اسمُ القرية الّتي تقع فيها الأحداث التوراتيّة للنبيِّ يعقوب؛ إذ تقتبسُ "مارغريت أتوود" في بداية الرواية سِفراً من الإنجيل الّذي يروي قصَّة النّبيِّ يعقوب وزوجته العاقر راحيل، والّتي تطلب من زوجها ولداً، وتقترحُ عليه أن يضاجعَ خادمتَه (بيلها) وأن تكون ثمرةُ هذا الجماع ولداً ليعقوب وراحيل.
كيف قامت دولةُ جلعاد؟
"وهكذا عشنا؛ كما جرتِ العادةُ؛ بتجاهلِ ما يجري حولنا. التجاهلُ والجهلُ شيئان مختلفان كليّاً، يجب أن تبذُل جهداً للأوّل".
لا يحدثُ التغييرُ مباشرةً، بل مَنْ يدرسُ التاريخَ يعلمُ أنَّ التغييرَ الحقيقيَّ يحدثُ نتيجةَ توالي أحداثٍ صغيرةٍ لا تبدو أنّها تحمل تأثيراً فعلياً إلّا لِمَنْ يراقبُ الصورةَ الكاملة، وهكذا كان قيام جلعاد؛ بدايةً بإيقاف الدستور مؤقّتاً وقيامِ الحكم العسكري بحجة الدفاع ضد الهجمات الإرهابيّة التي كانت تضرب الولايات المتحدة، والّتي كانت حقيقةً من هندسةِ المؤمنين الّذين ينتظرون الفرصةَ المناسبة للاستيلاء على السلطة، وتَلا ذلك سحبُ الحريّاتِ التدريجي حتّى وقعَ الانقلابُ العسكري.
الإِماء:
في مبنى مدرسةٍ ثانويّةٍ تُقادُ بطلتُنا غيرُ المُسمَّاةِ من قِبلِ النساءِ اللّواتي سوف يدربونها لأجل دورها الجديد، دورِها كَأَمَةٍ، وهنَّ يطلقن على أنفسهنَّ العمّات؛ للدلالة على دورهنّ التربويّ للنساءِ اللّواتي قد قُبِضَ عليهنَّ، ويسمّون المبنى "مبنى راحيل وبيلها"، وفيه قد جُمِعتِ النساءُ الخصباتُ لأجلِ مَهمَّتهنَّ المقدّسةِ في العالم الجديد؛ أن يَكُنَّ الأواني الحاملةَ لأطفال القادة! وتمشي الإماءُ دائماً أزواجاً، ولا يتكلّمون مع الرجال، ولا يُسمَح لهنَّ بالقراءة أو الكتابة.
وقد عملتِ العمّات على إدخال الخنوعِ والقبولِ في قلوب النسوة، فكنَّ يُطلقنَ عليهنّ صفةَ العاهراتِ لِما قُمنَ به في الماضي، وفي أحدِ المقاطع المؤثّرة؛ تروي إحدى النسوة قصةَ تعرُّضِها للاغتصابِ في الجامعة، ويُلقى اللومُ عليها لأنها قد ضلَّلتِ الرجالَ بلباسِها الفاحش وعدمِ التزامِها المنزلَ.
أوفريد تحصل على اسم ومنزل:
لا يُسمَحُ للأَمَةِ أن تستعملَ اسمَها، بل هي تُدعَى تِبعاً للقائد الَّذي تخدمُه، وهكذا تَجِدُ "أوفريد" نفسَها مع هذا الاسم في بيتٍ غريبٍ؛ واقعةً في شِباكِ مؤامراتِ كلٍّ من القائدِ وزوجتِه ورغباتهما، وذلك تحت غطاءٍ من الورَعِ والمراسمِ والطقوسِ الدينيّة، وتجد "أوفريد" نفسَها لا تملكُ من أمرِها شيئاً؛ فزوجةُ القائدِ تريدُ طفلاً، وهي مستعدّةٌ أن تفعلَ أيَّ شيءٍ للحصولِ عليه حتّى إذا عنى ذلك دفعَ "أوفريد" لمضاجعةِ السائق، في حين يعيشُ الزوجُ خيالاتِه المكبوتةَ مع "أوفريد"، وهكذا تخسرُ "أوفريد" كلَّ ما تملكُ من سيطرةٍ على قَدَرِها، فهي لا تملك السيطرةَ على جسدها، كما لا تملكُ السيطرة على ما تفكِّرُ به أو تفعلُه.
" القائد: كلُّ ما أردناهُ أن نجعلَ العالمَ أفضل.
أوفريد: أفضلَ؟
القائد: أفضلَ لا يعني أفضلَ للجميع".
وفي هذه الظلمةِ؛ تجدُ "أوفريد" نفسَها تسترجعُ ذكرياتِ الماضي، ورويداً رويداً تتذكّرُ زوجَها وطفلتَها الّتي أُخِذتْ منها، وتذكرُ كيفَ بدأتْ قصةُ حبِّها مع زوجها الّذي كان متزوِّجاً من امرأةٍ أُخرى آنذاك.
وبينما كانت "أوفريد" تهوي في الذكريات هرباً من واقعها الأليم؛ وبينما كانت على وشك أن تستسلمَ إذ بها تجدُ قوَّتها في عبارةٍ منقوشةٍ من قبل الأَمَة السابقةِ:
"لا تَدعَي السَّفَلة يمرِّغون وجهكِ بالتراب".
الخاتمة:
ترسمُ الكاتبةُ مستقبلاً مظلِماً لا يبتعدُ في تفاصيلِه كثيراً عن واقعنا، فعلى الرَّغم من أنَّ المعاناةَ مبالَغٌ فيها لكي تكونَ واضحةً للقارئ؛ لكنّها تجدُ أصداءً لها في حياتِنا اليوميّة، وبحِنكةٍ وعبقريّةٍ ملحوظتَين تعبّرُ الكاتبةُ عن واقعِ "أوفريد" بواسطةِ أسلوبِ السرد؛ فتخلو الروايةُ من اقتباساتِ الحوار، ممَّا يجعلُك مشوَّشاً بينَ الكلامِ الّذي ينتمي إلى الآخرين وذاك الذي ينتمي إلى "أوفريد" نفسِها، وفي هيكليّةِ الروايةِ - الّتي لا تملك منهجَ الرواياتِ المُعتاد - قد تلمحُ ما تشعرُ به "أوفريد" من ضياعٍ للمعنى والهدفِ في حياتِها.
وتركِّزُ الكاتبةُ على أنّ عالَماً يتضمّنُ حريّةَ الخيارِ هو عالَمٌ لا بدَّ من أن يحدثَ فيه خيانةٌ واغتصابٌ وغيرُه من الشرور، ولكنَّ غيابَ الحريَّةِ يسلبُ الفضيلةَ معناها، وكذلك فمقايضةُ الحريّةِ بالأمن هي صفقةٌ خاسرة. وفي كلٍّ من هذا الكتابِ والاقتباسِ التلفزيوني عنه قد تَجدُ العديدُ من النسوةِ مرآةً لمعاناةِ جنسهنّ، كما قد يجدُ الرجالُ فيهما مَعْبَراً لفهمِ معاناةِ نصف المجتمع الآخر.
*ملاحظة: ورد في لسان العرب: الأَمَةُ : المَمْلوكةُ خِلاف الحُرَّة.
وفي التهذيب : الأَمَةُ: المرأَة ذات العُبُودة ، وقد أَقرّت بالأُمُوَّة.
معلومات الكتاب
العنوان: :قصة الخادمة.
اسم المؤلف: مارغريت أتوود.
ترجمة: عبد الحميد فهمي الجمال.
عدد الصفحات: 567.
دار النشر: المركز القومي للترجمة 2010.