مراجعة كتاب؛ نظريةُ الفوضى، مِن رَحِمِها يولَدُ النظام!
كتاب >>>> الكتب العلمية
كثيرةٌ هي الأسئلةُ التي طرحها الإنسانُ عبر تاريخِه، والتي شكَّلت نقطةَ الانطلاقِ نحو تقصّي الظواهرِ الغامضة في هذا الكون وفهمِ مشكلاتِه، وقادنا العثور على حلِّ بعض المشكلات إلى كثيرٍ من الاكتشافات؛ ومن أبرز الأسئلةِ المُحيِّرةِ: ما آليةِ عملِ هذا الكون، وهل من قوةٍ ما تتحكَّمُ بعملِه؟ وهل هو كونٌ مُنظَّمٌ أم فوضوي؟
ويحاولُ الكاتبُ الصحفيُّ "جايمس غليك" في كتابهِ العلميِّ "نظريةُ الفوضى؛ علمُ اللَّامُتوقَّع" الإجابةَ عن الأسئلة السابقةِ؛ وعلى الرغمِ من صِبغةِ الكتابِ العلميّة؛ لكنَّ "غليك" قد عمدَ إلى إضفاءِ جوٍّ روائيٍّ مميَّزٍ لأجلِ الحدِّ من رتابةِ الموضوع، وكي يشعرَ القارئُ كأنَّه يعملُ في أحدِ المراكز البحثية، ويزاملُ أبرزَ العلماءِ، وليس هذا فحسب؛ بل من المرجَّحِ أن يشاركَ القارئُ في توقُّعِ نتائجِ الأبحاث التي يُعدِّها أولئك العلماءُ؛ إذ تهدفُ إلى توقُّعِ نتيجةِ سلوكٍ مُعيَّن.
يُحدِّثُنا الكاتبُ عن عالمِ الفيزياءِ النظريةِ "ميتشل فايينبوم" العاملِ في مختبرِ "لوس آلموس الوطني" حيثُ صُنِعت أوَّلُ قنبلةٍ ذريةٍ، والذي لم يَعِد بإنجازِ شيءٍ ما، فما الذي كان يَشغلُ تفكيرَ "فايينبوم" إلى هذا الحد؟
نجد هنا أنَّ "فايينبوم" قد صنَّفَ صعوبةَ حلِّ المسائل إلى ثلاثِ درجات: 1-واضحةٍ 2-ليست واضحةً 3- عميقةٍ؛ وكان يعملُ حقيقةً على مسألةٍ عميقةٍ أسماها "الفوضى chaos"، والتي يبدأُ نطاقُ عملِها من الحدود التي يتوقَّفُ عندها العلمُ التقليدي.
ولكن؛ ما الذي نقصدُه بنظرية الفوضى؟
تُعنَى نظريةُ الفوضى بدراسةِ ظاهرةِ الاضطرابِ التي تنتشرُ في أرجاءِ الكون وعلى المقاييس كافّةً، مثلَ اضطرابِ النهر، وحركة أمواجِ البحر، والزلازلِ والبراكين، وتقلُّباتِ الأنواعِ الحيةِ وأعدادِها؛ فهي علمٌ لأجل دراسةِ العملياتِ المتحرِّكةِ أكثر من الحالاتِ الثابتة؛ علمُ ما قد يتحقَّقُ وما قد يكون.
فهل نجحَ أحدٌ بمعرفةِ سرِّ الفوضى؟ وهل من وجودٍ للانتظام وسطَ بحرِ الفوضى؟
سعَت نظريةُ الفوضى إلى صوغِ معادلاتٍ بسيطةٍ لشرحِ الظواهرِ الكُبرى، ويسردُ الكاتبُ عدةَ قصصٍ عن علماءَ درسوا الظاهرة، وقد ابتدأَتْ بتجربةِ العالمِ "لورنز" لمحاكاةِ الطقسِ وتوقُّعه باستخدامِ أحدِ البرامجِ الحاسوبيةِ، وبعد عدةِ محاولاتٍ مُخفِقةٍ توصَّلَ إلى وجودِ نمطِ طقسٍ متكرّرٍ يعاودُ الظهورَ وإنْ على نحوٍ مختلفٍ قليلاً عبرَ مراحلَ زمنيةٍ مستقلِّة.
وتوصَّلَ "لورنز" إلى ظاهرةٍ تنصُّ على أنَّ حدوثَ تغيُّراتٍ بسيطةٍ في المُعطياتِ الأوليةِ تُفضي إلى نتائجَ هائلةٍ عند الحساب النهائي أيضاً، وسُميَّتِ الظاهرةُ "الاعتمادَ الحسَّاسَ على المُعطياتِ الأوَّلية"، واشتُهرِت باسمِ أثرِ جناحِ الفراشة، فما الذي يدرينا؟! إذ قد تتسبَّبُ رفرفةُ جناحَي فراشةٍ فوق دمشقَ بتغييرِ نظامِ العواصفِ فوق بكين؛ وببساطةٍ؛ قد تؤدّي التغييرات البسيطةُ في نظامٍ ما إلى نتائجَ مَهولة.
وجدَ "لورنز" أنَّ التقلباتِ تُكرِّرُ نفسَها ولكن على نحوٍ مختلف؛ إذ يُوجَد نمطٌ ولكنَّه مضطربٌ، ومن السهلِ نسبياً توقُّعُ المنحى الذي ستتخذه ظاهرةٌ ما بعدَ فترةٍ قصيرةٍ، ويَصعبُ ذلك التوقُّعُ مع تقدُّمِ الوقت، ومَردُّ ذلك يعودُ إلى تراكمِ الأخطاءِ وتضاعُفِها، والتي تَنتجُ عن صعوبةِ صوغِ معادلاتٍ تُعبِّرُ عن وقائعَ معينةٍ كالجوع أو المرض.
وهكذا نجد أنَّ بدايةَ نظريةِ الفوضى كانت في أحدِ أعدادِ مجلةِ الغلافِ الجوي، وليست في مجلةٍ رياضيةٍ أو فيزيائيةٍ، وهو ما قد يُعَدُّ في حدِّ ذاتِه نوعاً من الفوضى؛ إذ تَعبُرُ النظريةُ الحدودَ الفاصلةَ بين الاختصاصاتِ العلميةِ المختلفةِ مُعاكِسةً التوجُّهَ نحوَ تجزئةِ العلوم.
ويؤمنُ أنصارُ نظرية "الفوضى" بأنَّها الثورةُ الثالثةُ في علوم الفيزياء، ومعَ صعوبةِ فهمِها وغموضِ تَسميتِها تنظرُ نظريةُ الفوضى إلى الأشياءِ على مقياسِ الإنسان، خلافاً للنظريةِ "النسبية" التي تتعاملُ مع مقياسِ الكون الكبير، ولِنظريةِ "الكمومية" التي تتعمَّقُ في مقياسِ الذرَّةِ الصغير، وتهتمُّ نظريةُ الفوضى - بالدرجة الأولى - بالبشرِ وتجاربِ حياتِهم اليومية.
ويتناولُ الكتابُ عشراتِ الأمثلةِ التي توضحُ كيفيةَ تعامُلِ مُختلفِ الميادين العلميةِ في دراسة الفوضى، إذ لِفهم حقيقةِ الظواهرِ المُضطربةِ شرعَ العلماءُ بالبحث عن شيءٍ ما دوريٍّ مُختبئٍ فيها، وشرَعَ كلُّ حقلٍ معرفيٍّ بإنتاجِ نمطِهِ الخاصِّ من الفوضى.
عديدةٌ هي الأفكارُ والنظرياتُ والتجاربُ التي تناولَها الكاتبُ في "بحثه" - إن صحَّ التعبيرُ - متوسِّعاً في شرح النظرية، ونذكر هنا بضعَةَ أمثلةٍ منها؛ كظاهرةِ المقاييسِ وتراكيب "الفراكتال"، والتدفق الخطي، وتضاعفِ الدورةِ والجواذب، والنظريةِ الشاملةِ، ونظريةِ المعلوماتِ، والمراحلِ التي تُسبقُ الاضطراب، وسنتركُ لكم فرصةَ الاستمتاعِ بقرائتها.
ويمكنُ تشبيهُ نظريةِ الفوضى بِقطٍّ أليف؛ فهي تكرهُ الثباتَ ولا تُتيحُ لأحدٍ أن يُحكِمَ الإمساكَ بها، إذ سُرعان ما تنفلَّتُ من بين يدَيه، وما يزالُ أمامَ العلماء الكثيرُ ليدرُسوه لأجل بلورةٍ أكبرَ لنظريةِ الفوضى التي تتصارعُ مع الأفكارِ التقليديةِ وتنقضُها، والرحلةُ أمامَهم طويلةٌ، فهم كمَنْ يُعيدُ كتابةَ العلمِ من جديد.
المؤلف: جايمس غليك
المترجم: أحمد مغربي
دار النشر: دار الساقي، بيروت، لبنان.
سنة الطباعة: 2008
عدد الصفحات: 384