مراجعة كتاب "أعظمُ استعراضٍ على الأرض"
كتاب >>>> الكتب العلمية
الكتابُ في نسخته العربيةِ من طباعةِ المركزِ القوميّ للترجمة، وهي ترجمةٌ انبرى لها الدكتور مصطفى إبراهيم فهمي في مَهمَّةٍ صعبةٍ جداً، ولكنَّها أنتجتْ ترجمةً أمينةً ومحترفة، فقد سبق لي أن قرأتُ الكتابَ في لغته الإنجليزية. والحقُّ يُقال؛ فقد كانت الترجمةُ ممتازةً على الرغمِ من صعوبةِ أسلوبِ "داوكنز" وعشوائيتِه في تقنياتِ السردِ العلمية خلافاً لغيره من المؤلفين، ولذا فإنّ فضلَ الدكتور مصطفى فهمي جليٌّ في إعلاءِ شأن هذا الكتابِ في نسختهِ العربية.
يتألفُ الكتابُ من جزأين، ويدورُ جزؤُه الأوَّلُ حولَ فلسفةِ "داوكنز" في الردِّ على الخَلقيين وعرضِه لتقنياتِ النشوءِ والارتقاء، كالانتخابِ الطبيعيّ والانتخابِ الصناعيّ، وإلى كلّ ما هنالك من أسئلةٍ عشوائيةٍ عُرفَ بها المجتمع اللاتطوُّري في محاولاته الفاشلةِ لتشويه نظريةٍ أصبحتْ حقيقيةً علميةً في المجتمعِ العلميّ بأكمله.
ويَصِفُ لنا "داوكنز" أيضاً في الجزءِ الأولِ من كتابه بدقةٍ متناهيةٍ كلّاً من المَساراتِ التطوريةِ الماكرويةِ والميكروية، مع عرضٍ لتجاربَ تُصوّرُ عمليةَ التطورِ تحدثُ مباشرةً أمامَ أعيننا، وينتقلُ الكاتبُ بعدها إلى الحديث عن السجلِّ الأحفوريّ وعمّا يُدعَى بالحلقاتِ المفقودة؛ مع تضمينِ سخريةٍ لاذعةٍ من أولئك الذين يحملون على ظهورهم أسفارَ الحلقاتِ المفقودةِ ويُهرْوِلون بها من مكانٍ إلى مكان وهم يسألون: أين الحلقاتُ المفقودة؟!، ولكنّ "داوكينز" يجيبُ عن هذا السؤال على نحوٍ علميّ رصينٍ مع شرحٍ وافرِ الدلائلِ عن ماهيةِ الحلقاتِ المفقودة وكيفيّة إيجادِها، وعن التنوعِ الحيويّ على الأرض، والصلةِ التي تربطُ بين كلّ الأنواعِ البيولوجية في شجرةِ الحياة.
وأمَّا في القسمِ الأخيرِ من الجزءِ الأوّلِ والذي يُدعَى "مُنكِرو التاريخ"، يعرِضُ "داوكنز" ممتلئاً حزناً وغضباً إحصائياتٍ أجْرَتها العديدُ من المؤسساتِ الدُّوليةِ عن التطورِ ودرجةِ إيمانِ الشعوبِ بصِحّته؛ إذ دُهشَ "داوكنز" من وجودِ مثلِ هذه النسبةِ الكبيرةِ من مُنكري حقيقةِ التطور، ومن المؤمنين بسِفرِ التكوين بصورةٍ حرفية بوصفِه مَصدراً للتاريخ، وهم من يصفهم الكاتبُ بـ "مُنكري التاريخ".
وفي الجزءِ الثاني من الكتابِ؛ يشيرُ "داوكنز" إلى الدلائلِ الحيويةِ على التطور، مُستهلّاً الحديثَ عن "الإمبريولوجيا" أو علمِ تشريحِ الأجنة، وعن الصلةِ المباشرة والدلائلِ المدهشةِ على التطورِ في الأجنّةِ البشرية وغيرِها من الأنواع.
ومن ثم ينتقلُ إلى الحديثِ عن الانجرافِ القارّيّ وتأثيرِه الكبيرِ على التنوعِ الإحيائي على الأرض، والذي يُعَدُّ من أهمِّ الدلائلِ التي تَهزأُ بأصحابِ النظريةِ الخَلقيةِ لنشوءِ الأنواع على سطح الأرض، ومن ثم يُقارِنُ بين الحيوانات الحديثةِ أحدُها مع الآخر؛ لِيلقي لنا نظرةً على توزّعِ الخصائصِ في المملكةِ الحيوانية، ويُقارنَ الشيفرةَ الوراثية بين الأنواع. فمَن هُم أبناءُ عمومتنا نحن البشر، وما درجةُ قرابتنا بهم؟.
يتحدَّثُ بعدَها عن الوعاءِ الجيني للأنواع وكيف ترسَّبت فيه جميعُ الجينات النَّشِطةِ والخامدةِ عبرَ تاريخِ تطور النوع؛ مع الحديث عن الأخطاءِ التصميميةِ للتشريح البيولوجي، وتشابُهِ تلك الأخطاءِ في العديد من الأنواع، فضلاً عن سخريتِه اللاذعةِ من أنصار التصميم الذكي، إذ إنَّ ما يُوجَد في هذا القسم من دلائلَ على غباءِ التصميمِ الذكي كاف بأن يجعل أولئك الذين يرفعون أعلامَه أن ينكسوا أعلامهم نهائياً.
وبعد ذلك يَروي لنا الكاتبُ عن سباقاتِ التسلّح بين الأنواعِ، وعن قدرةِ الانتخابِ الطبيعيّ الهائلةِ على تصنيفِ الأنواعِ وفقَ سباقاتِ تسلُّحِها، إذ تستمرُّ معركةُ الفريسةِ والمفترس بالتطوّر حتى تصلَ درجةً هائلةً على الميزان التطوري.