فرضيّة جديدة تثير جدلاً في أصل الحقول الثقالية
الفيزياء والفلك >>>> فيزياء
سيطرت نظريّتان أساسيّتان على علم الفيزياء منذ أواسطِ القرنِ العشرين، ولكلٍّ منهُما نماذجُ قويّةٌ فسّرت الظّواهرَ الكونيّةَ بطريقةٍ علميّة. أولاهما: النّظريّة النّسبيّة العامّة؛ والّتي قدّمت مفهوميّ الزّمان والمكان في مصطلحٍ فيزيائيّ مُوحّدٍ هو نسيجُ الزّمكان، والّذي تؤثّر الجاذبيّة عليهِ عبر تشويهه. وقد اختُبرت تِلكَ النّظريّة ونجحت على المُستويات الكونيّةِ الكبيرة. لكن عند تركِ الفضاءِ الشّاسعِ والدّخولِ في نطاقِ الذّرّة متناهي الصّغر، تتغيّر الحالةُ وتصبح المُشاهداتُ غريبةً والتّغيّراتُ الحاصلةُ غيرُ منطقيّةٍ وغيرُ قابلةٍ للتّفسير وفق المعلوماتِ المُتوفّرة، وهنا يأتي دورُ النّظريّة الثّانيّة وهي: نظريّة الكمّ؛ والّتي تُفسّر سلوكَ الجُسيمات دونَ الذّريّة. المصادر: 1 - هنا 2 - هنا 3 - هنا;
على الرّغم من محاولاتِ العلماءِ الحثيثةِ لربطِ النّظريّتين والحصولِ على نظريّةٍ موحدةٍ تمتلكُ تفسيراً شاملاً للكون - ومن هذه المحاولاتِ نظريّة الأوتار- إلا أنّ الحساباتِ الرّياضيّة لهذه الفرضيات بقيت غيرُ متوافقةٍ، وأضحت هذه المُشكلةُ محورَ بحثٍ للكثيرِ من الدّراسات، آخرها بحثٌ قادمٌ من معهد ماكس بلانك للبصريّات الكموميّة في ألمانيا للباحثِ "أنطونيو تايليوي". يقترحُ البحثُ أنّ الجاذبيّةَ هي خاصيّة للتقلبات العشوائيّة على المستوى الكموميّ (Random Fluctuations)، الأمرُ الّذي قد يعيدُ تعريفَ الجّاذبيّةِ ويضعَ المُجتمع الفيزيائيّ على بدايةِ الطّريقِ نحو النّظريّة المُوحّدة لفيزياءِ الكون.
نظريّة الكمّ:
تفترض النّظريّةُ إمكانيّةَ تحديد حالةِ الجُسيمِ على المستوى الذّرّي عن طريقِ دالّتهِ الموجيّة، وتمكّنُ هذه الدّالةُ العلماءَ من تحديدِ احتماليّة وجودِ الجُسيمِ نظريّاً في هذا الموقعِ أو غيرهِ، أمّا قبلَ حصول عمليّةِ "تأكيد الموقعِ" عن طريقِ "القياس" فلا يُمكنُ لأحدٍ أن يعلمَ موقعَ الجُسيم تحديداً أو حتّى إن كان موجوداً أو لا، لأنّ عمليّة "قياس" الجُسيمِ ستلغي الدّالةَ الموجيّة لهُ.
فمثلاً، عندما تعبرُ موجةٌ ضوئيّةٌ لوحاً زجاجيّاً سينعكس قسمٌ منها عن الزّجاج وسيعبرُ القسمُ الآخر، لكنّ الأمرَ مختلفٌ في الإلكترونِ وغريبٌ نوعاً ما؛ فنظريّةُ الكمّ تفترضُ أنّ الإلكترونَ ينعكسُ ويمرُّ في نفس الوقتِ، وكأنّنا نجدُ الإلكترونَ في مكانينِ مختلفينِ بآنٍ معاً، وعمليّة القياسِ هي ما يحدّدُ أحدَهما عشوائيّاً.
لا تهتمّ نظريّة الكمِّ بطبيعةِ القياسِ أو بمن يجريهِ، بل تجعلُ النّظريّةُ كلّ التفسيراتِ المُمكنةِ مُتساويةَ الحدوثِ حتى نتمكّن من رصدها، ورُبّما تُعتبرُ قطّةُ شرودنغر أهمّ المُتناقضات الّتي تُعبّر عن نظريّة الكمّ؛ إذ تفترضُ هذه المُتناقضةُ وجودَ قطّةٍ في صندوقٍ بظروفٍ قد تكونُ مُميتةً، لكنّها ستكونُ حيّةً وميتةً في نفسِ الوقت إلى أن نرفع غطاءَ الصّندوق.
نموذج تايليوي:
ظهرت إحدى محاولاتِ حلِّ تِلكَ المتناقضةِ في نموذج "غيراردي - ريميني - ويبر" أواخرَ الثّمانيناتِ من القرن الماضي. يفترضُ النّموذجُ وجودَ ومضاتٍ عشوائيّةٍ يُمكن أن تُسبّب انهياراً تلقائيّاً في الدّالّات الموجيّةِ للأنظمة الكموميّة، ممّا يجعلُ نتيجةَ الرّصد محميّةً من تدخّل الرّصد البشريّ.
وسّع "تايليوي" النّموذَج ليشملَ الجّاذبيّة، فعندما تُسبّب ومضةٌ كموميّةٌ انهيارَ الدّالّة الموجيّةِ ويصلُ الجُسيمُ لحالته النّهائيّة، ينبثق حقلٌ جاذبيٌّ إلى الوجودِ في تِلكَ اللحظةِ الدّقيقة في نسيج الزّمكان، وعلى النّطاق الكبيرِ جداً تحتوي الأنظمةُ الكموميّةُ على أعدادٍ كبيرةٍ من الجُسيماتِ الّتي تعبرها أعدادٌ هائلةٌ من الومضات.
وفقاً لفرضيّة "تايليوي" فإنّ تلكَ الومضاتِ تُنشئ حقلاً جاذبيّاً غير مستقرٍّ، ويكونُ الحقلُ الجّاذبيّ النّاتج من حصيلةِ تِلكَ الومضاتِ متوافقاً مع نظريّة نيوتن للجاذبيّة، فإذا كانتِ الجاذبيّةُ ناتجةٌ عن تقلّباتٍ كموميّة لكنّها تتصرّفُ وفقَ الأسلوبِ النّيوتوني (التقليدي) فسيكون لدينا نظريّةٌ شبهُ تقليديّة.
لا تلقى هذه الفرضيّةُ ترحيباً من الجميعِ، إذ حذّر العالمُ "كلاوس هورنبرغر" من جامعة دويسبيرغ إيسن في ألمانيا المجتمعَ العلميَّ من وجوبِ معالجةِ الكثيرِ من المشاكلِ قبلَ النّظرِ إلى نموذجِ "تايليوي" على أنهُ نظريّةٌ موحّدةٌ للقوى الأساسيّةِ الّتي تقفُ خلف قوانين الفيزياء الحديثة. رغمَ أنّ الفرضيّةَ تتوافقُ مع نظريّةِ نيوتن للجاذبيّةِ، إلّا أنّ من المُهمّ العملُ على نموذجِ "تايليوي" من النّاحيّة الرّياضيّة لإثباتِ أنّ نظريّةَ الكمّ تصفُ الجاذبيّةَ ضمن إطارِ النّسبيّة العامّة لآينشتاين.
ربما تُعتبرُ الفيزياءُ من أكثرِ الحقولِ العلميّةِ إثارةً للاهتمام بنظريّاتها الكثيرةِ وتفسيراتها الغريبةِ، لكن من المُمكنِ أن يكونَ الوقتُ مبكّراً لطرحِ فكرةِ توحيدِ نظريّات الفيزياءِ الحديثةِ. وكما هو الحال مع تحديدِ مصيرِ قطّةِ شرودنغر، فالفضولُ وحدهُ هو ما يُبقي البحثَ مستمرّاً لملءِ الفجواتِ الّتي لا تزالُ غامضةً لدينا.