موسمُ الهجرة إلى الشِّمال.. أدبُ ما بعدَ الاستعمار..
كتاب >>>> روايات ومقالات
وأحدُ الأسبابِ التي جعلت السّردَ في هذه الرّوايةِ معقَّدٌ هو ضياعُ الزّمن فيها.. فالسّردُ في الرّوايةِ يذهبُ بعيدًا نحو الماضي، ومن ثَمّ يعودُ إلى الحاضر.. يتحرّكُ إلى الدّاخل؛ وإلى الخارج، ويخترقُ الشّخصيّاتِ والرّاوي، ثمَّ ينتقلُ إلى نُقطةِ رؤيةٍ شاملةٍ لكلِّ شيء.
ولدينا في الرّواية (راوي الشّخصِ الأوّل) الذي كان مُنغمِسًا في حضارةِ المُستعمر الإنكليزيّ؛ إذ إنّه قضى هناكَ 7 سنواتٍ، وهو يُعدُّ واحدًا من النُّخبَةِ المُتَعلِّمَةِ، أو ما نستطيعُ أن نُسمّيه بـ"الهجين"!
منذُ اللّحظةِ الأولى في الرّوايةِ نَلحَظُ أنّ الرّاوي يحاولُ أن يُثبِتَ ويُبرهِنَ ارتباطَهُ بأرضِهِ وجُذُورِهِ العميقةِ في قريتِهِ السّودانيّة.. فهو لا يترُكُ أيَّة مُناسبةٍ دونَ أن يُذكِّرَ القارئ بمدى اتّصالِهِ بأرضِه وتجذّره فيها.
ومن حيثُ لا ندري يظهرُ فجأةً مصطفى سعيد، وهو شخصٌ لا ينتمي إلى هذهِ القرية، ولكنّه اشترى أرضًا فيها، وأصبحَ مُزارِعًا، وأحدَ الأفرادِ الفاعلينَ في مُجتمَعِها، وزَوجًا لواحدةٍ من نساءِ القرية!
وبينَ هذا التَّجَذُّر العميق للرَّاوي الذي لا اسمَ له في الرّواية، وعدمِ الانتماءِ هذا والغرابةِ لمصطفى سعيد؛ تدورُ أحداثُ الرّواية.
سيصلُ القارئ إلى نقطةٍ لن يكونَ قادرًا فيها على التّمييزِ بين الرّاوي ومصطفى؛ لأنّ مصطفى سعيد -من النّاحيةِ النّفسيّةِ- هو ((شخصيّةٌ بديلة))، ووجهٌ آخرُ للرّاوي!
وقد يصلُ القارئ إلى أبعدَ من ذلك؛ إذ إنّه قد لا يستطيعُ أن يميّز من الشخص المتجذِّر؟ ومَن الشخص الغريب؟!
سنلحَظُ في الرّوايةِ اختراقَ المُستعمِر للثّقافة والتّعليم، وأنّ أيَّة حالةِ تعلُّمٍ ودراسَةٍ للثَّقافةِ الغربيّةِ ستترُكُ آثارَها في الفرد، وفي كيفيّة تعامُلِ هذا الفرد مع الآخرين..
وقد تكون بعضُ هذه الآثار إيجابيّة؛ ولكن في حالةِ مصطفى سعيد؛ فإنّ أغلبَها آثارٌ سلبيّة. ومع كلِّ هذا فإنّنا سنرى أنّ مصطفى سعيد يدّعي أنّهُ تعلَّمَ اللُّغَةَ الإنكليزيّةَ؛ كي يستخدِمَها ضدّ المستعمِر، مُعلِنًا أنّه يحاربه بأحد أسلحته.
وقد أراد مصطفى أن يستَخدِمَ اللّغةَ كي يذهبَ إلى أورُبَّا، ويغزُوها عن طريق اغتصاب نسائها وتدميرِهم.. فقد كانَ مصطفى هو السّببَ في انتحارِ كثيرٍ من النّساء، وهو الذي قتلَ (جين موريس).. وسيتحوّل الخطابُ اللغويُّ المضادُّ لمصطفى إلى فعلٍ عنيف، وسينتهي به الأمرُ إلى القتل، وارتكاب جريمة!
ويحاول مصطفى كلَّ الوقتِ أن يُثبِتَ للرّاوي أنّ خطابَهُ المضادَّ إنّما كان ضدَّ المُستعمِر، ولكنّ كلَّ ما استطاعَ فعلَهُ بواسطة اللغة والمعرفة التي لديه؛ هو أن يخلُقَ عالمًا خياليًّا ومُزيَّفًا يغوي بواسطته النّساءَ الإنكليزيّات، ويوقِعَهُنَّ في فخِّه، ويستدرِجهُنَّ إلى سريره، ويسبِّبُ لهُنَّ الموت.
والشيءُ الأولُ الذي يقوله مصطفى للرّاوي غير المُسمَّى هو أنّه سيخبِرُهُ أجزاءً من قصَّته الغامضة، ولن يخبره بالرواية كاملة؛ لذا فإنّنا سنرى الرّاوي يعملُ دائمًا؛ وباستمرارٍ؛ على مِلءِ هذهِ الفَجواتِ التي رفض مصطفى سعيد الإخبارَ عنها.. وفي خلال رحلةِ البحثِ والتَّقَصِّي؛ سيكتشفُ الرّاوي أنَّ مصطفى لم ينتقم حقًّا من المُستعمِر؛ وإنّما انغمس كثيرًا في المسارِ اللغويّ للمُستعمِر؛ لأنّه؛ وبعدَ كلّ شيء؛ ما الذي تُمثِّله كلُّ أعمال القتل والانتحار التي تسبَّبَ بها مصطفى سعيد؟
إنّها -دون شك- أعمالُ عنف.. وإنّ أوَّلَ ما يرتكبه المُستعمِرُ ضدَّ السكّانِ الأصليِّين، وضدّ الحضارةِ الأصليّة؛ هي أعمالُ العُنف.
ويتلاعبُ المُستعمِرُ بالسُّكّانِ الأصليّين، وكذلك يتلاعبُ مصطفى سعيد بالنّساءِ الأورُبيات، إذًا؛ هو يفعلُ تمامًا ما يفعله المستعمر.
وهذا ما سيُثبِته الرّاوي عن طريق الفجوات والنصوص الخفية التي سيجمعها، وستشكِّل مادةً ثانويةً يُمكِنُ الاعتمادُ عليها، إلى جانب نسخة مصطفى من القصة.
وفي النّهاية؛ سيقرِّر الرّاوي ألّا يخضعَ لقوانين مصطفى سعيد، فقد حاولَ مصطفى أن يُعيدَ تشكيلَ عالَمِ الرّاوي وفقًا لروايته هو.. لدرجةٍ أصبحَ فيها الرّاوي يكادُ يكونُ انعكاسًا لصورةِ مصطفى سعيد في المرآة!
سيُطهِّرُ الرّاوي نفسَهُ مُنفَصِلًا عن مصطفى سعيد؛ عبر ولادةٍ جديدةٍ في نهر النّيل.. لقد اختارَ أن يعيشَ حياةً جديدةً، واختارَ أن يعودَ إلى أهلِهِ وأصدقائه مع كلِّ التَّغيُّرات التي حدثت في قريتِه.. ولكنّه سيعودُ دومًا إلى رَحِمه الجغرافي الأول.
ملحوظةٌ مُهِمَّة: الرّوايةُ غنيَّةٌ جدًّا بالأفكار، ولفَهمٍ أفضلَ للرّاوية نرجو البحثَ عن مقالاتٍ نقديَّةٍ عن الرواية، سواء باللُّغَةِ الإنكليزيّةِ كانت أم بالعربيّة.
معلوماتُ الكتاب:
الرّواية: موسمُ الهجرةِ إلى الشِّمال.
الكاتِب: الطَّيِّب صالح.
دارُ النَّشر: دار العودة – بيروت.
عامُ النَّشر: 1981.
عددُ الصَّفْحات: 172 قَطْعٌ متوسّط.