كيف يمكن تزويد الذكاء الاصطناعي بحسٍّ عام وسرعة بديهة؟ (٣)
الهندسة والآليات >>>> التكنولوجيا
يجلس البروفيسور أورين إيتزيوني (Oren Etzioni) في أحد مختبرات قسم علوم الحاسوب في مدينة سياتل مع فريقه المتخصص في العمل على دراسة إمكانية تزويد الذكاء الاصطناعي بنوع من الحس العام والبديهة. 1- هنا
يمتلك البشر قاعدةً معرفيَّة عن العالم المحيط بهم، ولكي يفكر «الذكاء الاصطناعي» بصورة مماثلة للبشر يجب علينا تزويده بالمعرفة التي يمتلكها معظم أبناء البشر، مثل: مبادئ الفيزياء ونسبية أحجام الأشياء وغيرها من الاستنتاجات التي تنبع عنها، وحتى ذلك الحين فإن البروفيسور أورين يشكُّ أن الذكاء الاصطناعي سوف يكون قادرًا على التفكير بمنطقية.
ومع التمويل بمئات الملايين من الدولارات؛ يستمر البروفيسور أورين وفريقه بالعمل على تطوير طبقة من الحس العام والإدراك التي يحاولون إدماجها في الأنماط المتوفرة حاليًّا من الشبكات العصبونية. ولكنْ السؤال الأول الذي يصطدمون فيه: ما الحس العام والبديهية؟!
يصف البروفيسور أورين الحسَّ العامَّ بقوله: هو كل المعرفة حول العالم التي نعدُّها أمرًا مفروغًا منه، ولذا فإننا نادرًا ما نتحدث عنها أو نقرُّها علانيةً. وبناءً على ذلك؛ وضع الفريق مجموعةً من الأسئلة التي يعتقدون أن ذكاءً اصطناعيًّا مزوَّدًا بحس عام بصورة ناجحة يجب عليه أن يتمكن من الإجابة عنها. «إذا ما وضعت جواربيَّ في الخزانة، هل سأجدهما هناك في الغد؟ إذا دست على أصابع شخص ما، هل سيغضب لذلك؟» وغيرها من الأسئلة المشابهة.
عمل الفريق في أحد مشاريعه على تطوير برنامج ذكاء اصطناعي يفهم القصد أو الشعور الكامن وراء فعل أو قول شخص ما؛ إذ بدأوا العمل بفحص آلاف القصص الموجودة على الشبكة العنكبوتية «الويب»، وكانوا يستخرجون المعاني المختبئة خلف العديد من المصطلحات الغامضة التي يستخدمها البشر فيما بينهم بالاستعانة بموقع wiktionary. بعد ذلك؛كان يؤدي العلماء التجميع المعرفي Crowdsourcing لقرابة 25 ألف شخص ويسألونهم عن آرائهم في القصد أو الشعور الكامن وراء قول أو فعل ورد في تلك القصص، ثم يغذون شبكة عصبونية لبرنامج ذكاء اصطناعي بتلك البيانات من أجل تدريبها.
في أحسن الأحوال؛ لم يعمل البرنامج سوى نصف الوقت. ولكنَّه حين كان يعمل، كان يظهر أدلة على (إدراك) مشابه للبشر؛ ففي جملة مثل «طبخ أورين العشاء في عيد الشكر» تنبأ البرنامج بأن أورين كان يحاول إبهار عائلته.
بالطريقة السابقة نفسها عمل الفريق على استخراج الحالة النفسية للأشخاص المذكورين في قصة ما. وكان البرنامج في النهاية قادرًا على الإتيان باستنتاجات على قدر من الدقة والمفاجئة للعلماء، خاصة أنها كانت مواقفَ جديدةً لم تُذكر سابقًا.
في أحد الأمثلة أُخبر البرنامج عن معلّم موسيقا غَضِب بشدة من الأداء غير الجيد لفرقته، وأنه «رمى الكرسي الخاص به»؛ تنبأ برنامج الذكاء الاصطناعي بأن معلّم الموسيقا «سيشعر بالخوف بعد ذلك».
من المهم التشديد على أن البروفيسور أورين وفريقه لا يهجرون تقنيات التعلم العميق. على العكس من ذلك، يؤكدون أهميتها وفائدتها، لكنهم لا يعتقدون أن هناك طريقة مختصرة للوصول إلى الوسيلة الخفية الموجودة فينا، التي تزودنا بهذه المعرفة المسبقة عن محيطنا، وتمدّنا بالحس العام والبديهة التي نظهرها نحن البشر.
لن يكفي إمداد خوارزميات الذكاء الاصطناعي بملايين القصص والأخبار. لن ينجحوا باستنتاج المعرفة الضمنية بهذه الطريقة، خاصة أن الكُتاب لا يذكرون كثيرًا تلك الأشياء مباشرةً؛ إذ إننا- نحن البشر- نمتلك هذا الحس المشترك الذي يمكّننا -كتّابًا وقرّاءً- من الفهم الضمني للمعنى والسياق.
التحدّي الآخر هو المنطق البصري؛ إذ صمم أحد علماء الذكاء الاصطناعي في فريق البروفيسور أورين برنامجًا يحاكي روبوتًا فيزيائيًّا، إضافة إلى بيت مزوّد بكل مقومات البيت الحقيقي. وملؤوا البيت بكل ما يملكه البيت الواقعي، مطبخ مليء بالصحون والمعدات، وأرائك في غرفة الجلوس يمكن دفعها وتغيير أماكنها. بعد ذلك طلبوا من الروبوت العثور على بعض الأشياء والتقاطها. بعد عدة آلاف من المحاولات بدأ الروبوت بالفعل في تطوير (فهم) لبعض الحقائق الأساسية في بيئته الجديدة تلك. فعندما يُسأل الروبوت «هل أملك طماطم في البيت؟» فإنه لا يتفقد خزائن المطبخ، وإنما يفضل أن يفتح باب الثلاجة ليتفقد ما بداخلها. وإذا ما سألوه «هل يمكنك العثور على مفاتيحي؟»؛ فإنه لا يحاول رفع التلفاز لينظر تحته. إنه يبحث خلف التلفاز بدلًا عن ذلك. «لقد تعلم أن التلفاز لا يُرفع في العادة».
يأمل الفريق أن كل هذه الأعمال المتفرقة: المنطق اللغوي، والمنطق البصري، وغيرها من المشاريع ستجعلنا مجتمعة أقرب إلى تزويد الذكاء الاصطناعي بحس عام يماثل ذلك الذي لدى البشر. لكن كم من الوقت يلزمنا لذلك؟ ما زلنا لا نعلم، وما زالت الأنظمة التي يبنونها تؤدي العديد من الأخطاء. تلك الأخطاء تتجاوز الـ50% أحيانًا.
وتقدر العالمة المسؤولة عن مشروع المنطق اللغوي حاجتها إلى مليون إنسان يشاركون في التجميع المعرفي Crowdsourcing لاستخراج أجوبتهم وانطباعاتهم عن قصص معينة كي تُزود تلك البيانات برنامج الذكاء الاصطناعي. وتلك المهمة تبدو في غاية الصعوبة.
ولكن ومع علمنا أنه ما من طريق مختصرة تؤدي إلى هذا الهدف. هل من طرائق أخرى لا تحتاج إلى هذا الكم الهائل من البشر على الأقل؟ طرائق تحتاج إلى جهد كبير ومرّكز، ولكن من دون أن يرتكز ذلك الجهد على مبدأ الحشد الجماعي للعامل البشري؟!
ربما.. تابعونا في مقالنا المقبل ضمن هذه السلسلة.
المصادر :