القضايا الأخلاقية في البحث السريري
البحث العلمي والمنهجية العلمية >>>> البحث العلمي
ومع تطوُّر الطب والإنسان؛ تطوَّرت هذه الأخلاقيات في العمل الطبِّي، والتي صُقلت ببعض التجارب المؤلمة والمحزنة في مسيرة الطب والإنسانية؛ فعلى سبيل المثال ومنذ أعوام ليست ببعيدة -عام 1932م- حدثت أشنع التجارب الطبية اللاإنسانية في الولايات المتحدة الأمريكية على أيادي الأطباء الذين أجرَوا تجربتهم على قرابة 400 أفريقي مصاب بالسلفس*؛ بحرمانهم من العلاج والدواء حتى يتسنَّى لهم دراسةَ مراحل تطوُّر المرض.
وقد دفعت مثلُ هذه الحوادث والتجارب العالمَ إلى سَنِّ قوانين في الأبحاث والتجارب الطبية لضمان حقوق المرضى والمشاركين في التجارب السريرية؛ ففي عام 1964م أُقِرَّ إعلان "هلسنكي" الذي يُعدُّ حجرَ الأساس في أخلاقيات البحث الطبي والتجارب السريرية المعنيَّة بالإنسان والمواد البشرية المختلفة (وراثية، بيولوجية ،.... الخ)، ومن الجدير بالذكر أنَّ جمعية الطب العالمية (WMA) طوَّرت هذا الإعلان وجدَّدته ليواكب التطوُّر وليُغطِّي الجوانب الإنسانية كافة.
لذا، فقد بُنيَ شكل أخلاقيات البحث الطبي -اليوم- على تمازُج عدد من الاتفاقيات العالمية المختلفة؛ أهمُّها: (دستور نيرمبج، وإعلان هلسنكي، و إبلاغ بلمنت، وقوانين مجلس المنظَّمات الدولية للعلوم الطبية) والتي تنطوي جميعها على ضمان حقوق المشاركين -في الأبحاث الطبية المختلفة- وأمانهم وسلامتهم؛ وذلك عن طريق تطبيق أربعة مبادئ أساسية:
1- ذاتية المشاركين: التي تتمثَّل في حقِّهم الكامل بقبول المشاركة في الأبحاث والتجارب أو رفضها؛ إذ يجب الحصول على الموافقة الصريحة من المشاركين -طواعيةً- بعد اطِّلاعهم على تفاصيل البحث كاملة؛ من الفائدة المتوقَّع الحصول عليها والمخاطر المحتملة إلى مصادر تمويل الجهة القائمة على البحث، إضافةً إلى الحفاظ على خصوصية المشاركين وعدم نشر بياناتهم الشخصية.
مع احترام حقِّهم بتغيير رأيهم والانسحاب من البحث في أيَّة لحظة دون فرض أيَّة عقوبة!
2- دفع الضرر: عن طريق الموازنة بين الأضرار والفوائد المتوقَّعة، واستبعاد كلِّ ما يفوق ضرُره نفعَه، والعمل على تخفيف نسبة حدوث الضرر إلى أقلِّ درجة ممكنة، وتقديم كلِّ التعويضات الممكنة للمشاركين سواءً كانت الرعاية الصحية المتعلِّقة بالتجربة -حتى إلى ما بعد انتهاء فترة البحث- أو الرعاية المادية في حال تعطيلهم عن عملهم في أثناء التجربة.
3- جلب المنفعة: إذ يهدف كلُّ بحث أو تجربة إلى الإجابة عن سؤال ما، أو إثبات فعالية علاج جديد؛ فيجب أن تعود نتائج التجارب بفائدة ملموسة على المعرفة الطبية وعلى الأفراد -محور التجربة- فيما يخصُّ حالتهم الطبية، وليس مجرَّد تجارب وأبحاث عبثية.
4- العدالة: تلك القائمة على المساواة بين الحالات الطبية جميعها، والمشاركين جميعهم، وعدم التمييز بين الأعراق والألوان والجنسيات المختلفة؛ إذ تُختار نوعية المشاركين المطلوبة بحيادية علمية بحتة وفقًا لنوعية الأفراد التي تحتاجها التجربة؛ وذلك لتحقيق أكبر فائدة مرجوَّة من البحث وبأقلِّ ضررٍ ممكن.
ولكن تظلُّ المفاضلة -بين مبدأَي دفع الضرر وجلب المنفعة، وتحليل حصيلة العائد الكلِّي المتوقَّع من البحث- العاملَ الأهمّ في قبول البحث أو رفضه، وهي مسؤولية اللجنة الأخلاقية الحيادية؛ والتي لا تملك مصالحًا في نجاح البحث أو فشله؛ إذ تراجع -مراجعةً مستقلَّة- بروتوكول البحث القيد الدراسة، والمقبول منطقيًّا لمبادئ العلم العامة، والمبني على أسس الأدب العلمي؛ عن طريق تسلسل فكرة التجربة ونجاحها في مراحل البحث السابقة من الإثباتات النظرية، ثمَّ التجارب المخبرية، ثمَّ التجارب على الحيوانات.
لتتكوَّن بذلك أرضية علمية أخلاقية تنطلق منها اللجنة بحيادية في قبول البحث والتجربة على الإنسان أو رفضهما، وتستمرُّ اللجنة بمراقبة البحث حتى انتهائه للتأكُّد من تطبيق أخلاقيات البحث السريري على أتمِّ وجه.
وتُعدُّ شفافية القائمين على البحث أيضًا من العوامل المهمَّة في شرح تفصيلات البحث، وتأثيرات الأدوية، والإجراءات الطبية الأخرى التي قد تكون مؤلمة ومزعجة، مؤقَّتة أو دائمة تستمرُّ مدى الحياة؛ وذلك تبعًا لنوع التجربة والحالة المرضية المدروسة وتصنيفها في عوامل الخطر المحتمل حدوثها، ومن ثمَّ تبيِيْنها للمشاركين واللجنة الأخلاقية في بروتوكول البحث بوضوح ولغة مفهومة، إضافة إلى الإضاءة على حالة الاعتبارات الأخلاقية في التجربة.
في الحقيقة، إنَّ ما يُصنِّف عوامل الخطر في التجربة إلى مرتفعة ومنخفضة هو احتمالية حدوث هذه الأخطار؛ فكلَّما زاد احتمال الحدوث زادت الخطورة.
في النهاية؛ فإنَّ هدف البحث الأساسي هو إيجاد أفق جديد للمعرفة الذي -بسُموِّ أخلاقيَّاته- كان وما زال الخطوة الأولى في طريقِ علاج كثيرٍ من الآفات المهدِّدة لحياة الإنسان، وفي إعطاء الأمل للكثيرين ممَّن فقدوا الأمل في إيجاد علاج لمرضهم. فالطاعون، والإنفلونزا، وشلل الأطفال، وغيرها؛ أمراضٌ تسبَّبت بكوارث بشرية، ولم تكن قابلةً للعلاج في زمنٍ ليس ببعيد.
ومن يدري؟ ربَّما يكون السرطان هو التالي!
المصادر:
1- هنا
2- هنا
3- هنا