عندما يبلغ الألم حدَّ العجز، لا نملك سوى رفعَ عتبة الألم
كتاب >>>> روايات ومقالات
ولعلَّ أبرز ما يُميز هذه الرواية هو العفوية في السرد، فنرى النص بعيدًا عن التسلسل الزمني للأحداث الذي يكون عنصرًا من عناصر السير الذاتية عادةً؛ إذ يبدأ الكاتب بسرد الأحداث الآنيَّة لحظة كتابة الرواية عام 2015، حزينًا على ما آل إليه وطنه، كيف لا وهو يعدُّ سورية بلده الأم، ويصف فلسطين بأنَّها "أرض سورية اغتُصِبَت بمؤامرة كونية فريدة من نوعها في تاريخ البشر".
ويقول: "كنت وما زلت وسأبقى مؤمنًا بأنني سوري أعطوه اسم فلسطيني، تمامًا كما أنَّ هناك حلبي، حمصي، لاذقاني ..إلخ".
ويتكلم عن ذكرياته في مخيم اليرموك، وعن الليالي العديدة التي قضاها ساهرًا في الحارة مترقِّبًا عودة أخيه "أبيه الصغير"، حتى بات الأرق صديقَه الذي يرافقه، وأضحى حارس الليل وحارس الصمت والخوف.
ومن بعد ما حلَّ بمخيم اليرموك، بدأ الفلسطينيون "درب التيه الطويل"، وتفرَّقَ الأحبةُ من حوله وبات غريبًا في بلده "سائحًا في مدينته" حسب وصفه، فغادرها إلى مصر ثم غالبه الحنين إلى دمشق، وإلى رشا، فعاد إلى دمشق ثانيةً. يقول: "ففي دمشق وحدها أستطيع أن ألملم بعضي إلى بعضي".
وقد كانت رشا ورزان وغيرهنَّ من النساء فصولًا من فصول حياته؛ "والحياة مسرحية في فصول لا يمكن أن تكون جميلةً لو أُسقِطت إحدى فصولها" على حدِّ قوله.
وندرك في الرواية تأثير هذه الفصول بقصصها وشخصياتها في أعمال الكاتب من مسلسلات مثل: (نساء صغيرات، قبل الغروب، حكاية خريف، الغفران، الندم). وعلى الرغم من كثرة الفصول والنساء لم يكن ثمَّة أحدٌ مثل "هناء".
إنَّ "هناء" شابة في كلية الهندسة، تعرَّف إليها في إحدى زياراته إلى أصدقائه، ثمَّ بدأت قصتهما؛ قصة الحب أو قصة الوجع كما كانت تصفها هي؛ فربما قد تنبَّأت بنهايتها القريبة، فآثرت أن تبقى بعيدةً عنه على الرغم من حبِّها الشديد له.
وقد دامت قصة الحب هذه ثمانية أشهر، رحلت بعدها "هناء" فجأةً وإلى الأبد؛ إذ عاد "حسن" في إحدى إجازاته من الخدمة العسكرية ليجد هناء قد رحلت إلى سويسرا، وتزوَّجت رجلًا لم تره يومًا قبل الزواج، ولم يكن ثمَّة تواصل بينها وبين "حسن" سوى مرتين طوال ثلاث سنوات؛ إحداهما كانت عندما أرسلت له الصبية هدية، والأخرى عن طريق رسالة تحوي أربعة أبيات من شعر ابن حزم القرطبي:
أغارُ عليكَ من إدراك طرفي وأشفق أن يُذيبك لمس كفي
فأمتنع عن اللقاء حذار هذا وأعتمد التلاقي حين أغفي
فروحي إن أنم بك ذو انفرادٍ من الأعضاء مستتر ومخفي
ووصل الروح ألطفُ فيك وقعًا من الجسم المواصل ألف ضعفِ
ثم رحلت هناء، وتُوفيَت بعد أن سرق السرطان منها رونقَ الحياة، ويقول في ذلك: "مذ رحلت هناء وأنا مصابٌ بهذا اليقين: كلُّ الوقت الذي عشته من بعدها كان وقتًا إضافيًا، وقتًا بديلاً من ضائع"، ويقول: "كانت ذبحة القلب، وجع النفس وغصَّة العمر".
فأمست هناء تزوره في أحلامه، كما تزوره والدته، وباتت سببًا إضافيًّا لذلك الأرق اللعين؛ فبحسب وصفه "ثمَّة رابطة أكيدة بين الأرق وقوة الذاكرة".
إنَّ الذكريات موجعةٌ، وبالوجع ذاته يتذكر "حسن" دمشق الماضي، وطوال فصول الرواية المختلفة يجول القارئ في شوارع وأزقة دمشق الياسمين، ويصفها بالقول "دمشق، أقدم عاصمة مأهولة في العالم، المنزل الدمشقي أجمل مساكن الأرض"، ثمَّ ما يلبث أن يتحسَّر على حاضرنا قائلًا: "فجأةً، في نصف قرن واحد فقط، نجد أنفسنا مقمطين بالأحزمة العشوائية، منظرُ هذه المنازل ضارٌ حتى بالبصر؛ فهو يجرح العين بفجاجته، كيف نمت هذه العشوائيات؟"، ويعود ليسأل: "هل خلعَتْ دمشق إنسانيَّتها عن نفسها ورمت بها؟ أم هي الحرب؟ الحرب المُنفلتة من أيَّة قواعد واضحة؟".
كيف لا يَحقِد على تلك الحرب وهي نفسها من أقصته عن منزله، فأضحى كما كان صغيرًا لا يملك مفتاحًا لأيِّ بابٍ في هذه الدنيا.
فصول أخرى عديدة من حياة الكاتب يطرحها في هذه الرواية، متحدِّثًا عن طفولته، وسفره إلى روسيا ودراسته هناك، وعن إخوته وأحبائه، وعن عديد من المواقف التي ستشعر -عند قراءتها- وكأنَّها أقرب؛ لأنَّها تكون بوحًا لصديق لما فيها من عفوية وبساطة أكَّد عليها الكاتب عن طريق تنوع الكتابة بين العربية الفصحى وبين العامية المحكية، واعتمد الكاتب أسلوبًا مُميزًا لكسر الرتابة والنمطية أيضًا؛ فنجد بين صفحات الكتاب وفصوله خواطر ممتعة.
إنَّ رواية (عتبة الألم) روايةٌ مميزة بأسلوبها وسردها، وفي نهاية هذه الرواية - كما بدايتها- لا تحمل السمات الواضحة للنهاية؛ فقد بقِيَ السرد مستمرًّا، وما زال في جعبة الكاتب وذاكرته حكايات ربما لم تُروَ بعد.
معلومات الكتاب:
اسم الكتاب: عتبة الألم.
اسم الكاتب: حسن سامي يوسف.
دار النشر: دار الفرات.
تاريخ النشر: شباط (فبراير) ٢٠١٦.
عدد الصفحات : ٣٠٧ صفحة.