السرطان والصحة النفسية - الجزء الأول
علم النفس >>>> الصحة النفسية
تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية (WHO) إلى أنّ السرطان هو السبب الرئيسي الثاني للوفاة على مستوى العالم، وهو مسؤول عما يُقدَّر بنحو 9.6 مليون حالة وفاة في عام 2018. أما على الصعيد العالمي، فتكون قرابة 1 من كل 6 حالات وفاة سببها السرطان.
ولمّا كان السرطان مرضًا منهكًا؛ فلم تقتصر تأثيراته على الصحة الجسدية فقط، بل تعدّتها إلى الصحة النفسية لمرضى السرطان وعائلاتهم؛ إذ تكون الشدة النفسية شائعة جدًّا لدى مرضى السرطان حتى بعد النجاة منه والانتهاء من العلاج.
وقد دُرِست الشدة النفسية في العقدين الماضيين، لذا؛ زادت الحاجة إلى تسليط الضوء على هذه الآثار النفسية لما لها من تأثيرات جمّة في سير المرض والاستجابة للعلاج، وهي ما سنأتي إلى ذكره في هذا المقال.
بدايةً لنعرّف الشدة النفسية Psychological Stress:
إنّ الشدة النفسية هي تجربة متعددة العوامل غير سارة وذات طبيعة نفسية (إدراكية وسلوكية وعاطفية) و/أو اجتماعية و/أو روحانية.
وقد تتداخل مع القدرة على التعامل بفعالية مع السرطان وأعراضه الجسدية وعلاجه، وتتراوح من المشاعر الطبيعية الشائعة المتمثلة في الضعف والحزن والخوف إلى المشكلات النفسية التي يمكن أن تسبب العجز؛ مثل الاكتئاب، والقلق، والهلع، والعزلة الاجتماعية، والأزمة الوجودية والروحية.
كيف يستجيب الجسم للشدة النفسية؟
يستجيب الجسم للشدة أو للضغط الجسدي أو العقلي أو العاطفي عن طريق إطلاق هرمونات الشدة -مثل الإيبينيفرين والنورإيبينيفرين- التي تزيد من ضغط الدم وتسرّع معدل ضربات القلب وترفع مستويات السكر في الدم؛ مما يساعد الشخص على التصرف بقوة أكبر وسرعة أكبر للهرب من تهديد محتمل، ولكن؛ يكون لهذه الهرمونات تأثيرات مثبطة للمناعة كما أظهرت الأبحاث.
وبيّنت الأبحاث أن الشدة النفسية الشديدة والطويلة الأجل (المزمنة) يمكن أن تسبب اضطرابات في الجهاز القلبي الوعائي والهضمي والبولي، ومشكلات في الخصوبة، وضعف في جهاز المناعة.
كذلك يكون الأشخاص الذين يعانون الإجهاد المزمن أكثرَ عرضة للإصابة بالالتهابات الفيروسية مثل الأنفلونزا أو نزلات البرد والشعور بالصداع واضطرابات النوم والاكتئاب والقلق.
وتؤدي الشدة النفسية إلى إفراز الهرمون المطلق للموجِّهة القشرية (CRH)، ومن ثم إفراز الهرمون الموجه لقشر الكظر (ACTH) الذي يحث قشر الكظر على إفراز الكورتيزول المعروف بتأثيراته المضادة للالتهاب والمثبّطة للمناعة، إضافةً إلى دوره في تثبيط الخلايا اللمفاوية والخلايا البالعة وتثبيط إنتاج السيتوكينات وغيرها من الوسائط المناعية وتقليل تأثيرها في الخلايا المُستهدَفة.
هل يمكن للشدة النفسية أن تسبب الإصابة بالسرطان؟
على الرغم من إمكانية أن تسبب الشدة النفسية -أي الإطلاق المستمر لهرمونات الشدة- عددًا من المشكلات في الصحة الجسدية؛ لكنّ الدليلَ على أنها تسبب السرطان ضعيف.
وتبقى العلاقة السببية بين الشدة النفسية ومرض السرطان مثيرةً للجدل؛ إذ تختلف الأبحاث الحديثة بوجود هذه العلاقة أو عدمها.
ولكن؛ ما تأثير السرطان في الصحة النفسية؟
درست الأبحاث الحديثة الآثار النفسية التي يسببها مرض السرطان في المصاب به، وتشمل هذه الآثار:
كذلك يؤثر نوع العلاج -متضمنًا الجراحة والعلاج الكيميائي والعلاج الإشعاعي والعلاج المناعي والعلاج الهرموني- تأثيراتٍ مهمة بسبب التغيرات الجسدية المحتملة التي قد تنجم عنه مثل البتر وفقدان الشعر، إضافةً إلى الأعراض التي يسببها؛ مثل الألم والغثيان والقيء والتعب.
كذلك يعاني مرضى السرطان الشعور بالوحدة والتخلي ومشكلات العودة إلى العمل أو التهميش.
أما فيما يخص سرطان الأطفال، فيمكن أن يؤدي تشخيصه وعلاجه إلى سلسلة من الضغوطات للعائلة بأكملها، وغالبًا ما تتضمن زيارات طبية متكررة وإجراءات غازية وتأثيرات جانبية صعبة ونفقات مالية.
وتشير عديدٌ من الأبحاث إلى أنّ مجموعة صغيرة من الأطفال المصابين بالسرطان وآبائهم معرضون على نحو متزايد لخطر الاضطرابات النفسية كأعراض الاكتئاب وأعراض إجهاد ما بعد الصدمة، وذلك على الرغم من أنّ عائلات عدّة تُظهر مرونة نفسية في مواجهة سرطان الأطفال.
وأشارت دراسة أخرى إلى عدم وجود زيادة كبيرة في اضطرابات إجهاد ما بعد الصدمة أو أعراضها لدى الأطفال المصابين بالسرطان.
وعلى الرغم من أنّ سرطان الطفل لا يزال تحديًا مهمًّا وصعبًا؛ فإنّ هذه النتائج تسلط الضوء على قدرة الأطفال على التكيف والمرونة، بل والنمو النفسي الذي يشير إلى التغيير الإيجابي الذي حدث نتيجة الصراع مع الصدمة، وغالبًا ما يظهر بعلاقات اجتماعية أوثق وتعزيز التعاطف وزيادة القوة العاطفية وما إلى ذلك.
بعض مراحل الإصابة بالسرطان التي تسبب الشدة النفسية بحسب الشبكة الوطنية الشاملة للسرطان:
• الاشتباه بأعراض الإصابة بالسرطان.
• تشخيص السرطان.
• انتظار العلاج.
• تغيير العلاج أو نهايته.
• الخروج من المستشفى.
• النجاة من السرطان.
• فشل العلاج.
• عودة ظهور المرض أو تطوره.
• وصول المرض إلى مرحلة متقدمة.
• القرب من نهاية الحياة.
وبعد ذكرنا تأثير السرطان في الصحة النفسية، سنتطرّق إلى الآثار التي تسببها الشدة النفسية في المرضى:
كيف تؤثر الاضطرابات النفسية في الأشخاص المصابين بالسرطان؟
تتباين استجابات الذين يعانون الإجهاد والشدة النفسية؛ إذ يحاول بعضُهم التحكم بالإجهاد عن طريق اتباع سلوكيات محفوفة بالمخاطر كالتدخين أو شرب الكحول، علمًا أنّ هؤلاء يعانون تدني نوعية الحياة بعد علاج السرطان. في حين يستخدم آخرون إستراتيجيات فعالة للتعامل مع الإجهاد كتقنيات الاسترخاء وإدارة الإجهاد، ولا تتطور الشدة النفسية لدى هذه الفئة إلى اكتئاب أو قلق شديد وتقل لديها شدة الأعراض المرتبطة بالسرطان وعلاجه.
وتشير أدلة الدراسات التجريبية إلى أنّه يمكن للتوتر النفسي أن يؤثر في قدرة الورم على النمو والانتشار؛ إذ أظهرت بعض الدراسات أنه عند إبقاء الفئران الحاملة للأورام البشرية معزولةً عن غيرها من الفئران -وهي ظروف تزيد من الشدة النفسية- فتكون أورامها أكثر عرضة للنمو والانتشار.
وفي مجموعة أخرى من التجارب، ارتفعت معدلات انتشار الأورام -التي وُزِّعت في الدهون الثديية لدى الفئران- إلى الرئتين والغدد اللمفاوية في حال كانت الفئران مصابة بالإجهاد النفسي المزمن.
كذلك توصّلت الدراسات التي أُجريت على الفئران والخلايا السرطانية البشرية المزروعة في المختبر إلى أن هرمونات الشدة قد تعزز تكوين الأوعية الدموية الجديدة التي تساعد الخلايا الورمية الخبيثة على الانتقال والانتشار إلى مناطق مختلفة.
وفي إحدى الدراسات، سُئِلت النساء المصابات بسرطان الثدي الثلاثي السلبي* اللواتي عولجنَ بعلاج كيميائي عن استخدام حاصرات بيتا (أدوية تعارض تأثير بعض هرمونات الشدة) قبل العلاج الكيميائي وفي أثنائه.
وقد تبيّن أنّ النساء اللواتي بلّغنَ عن استخدام حاصرات بيتا امتلكنَ فرصةً أكبر لعدم حصول الانتكاس بعد معالجة السرطان، مقارنةً بالنساء اللواتي لم يبلّغنَ عن استخدام حاصرات بيتا. علمًا أنه لم يوجد فرق بين المجموعتين من حيث البقاء على قيد الحياة عمومًا.
وتشير بعض البيانات إلى أن تعرض المرضى للإجهاد الكبير يطور لديهم الشعور بالعجز أو اليأس؛ إذ ترتبط ردات الفعل هذه بارتفاع معدلات الوفيات.
وعلى الرغم من أنّ آلية هذه النتيجة غير واضحة؛ لكن تنص بعض تفسيراتها المحتملة على أنّ الأشخاص الذين يشعرون بالعجز أو اليأس لا يلجأون إلى العلاج عندما يصابون بالمرض، أو يستسلمون قبل الأوان، أو يفشلون في الالتزام بعلاج يمكن أن يكون مفيدًا، أو ينخرطون في سلوكيات محفوفة بالمخاطر مثل تعاطي المخدرات، أو لا يحافظون على نمط حياة صحي؛ مما يؤدي إلى الموت المبكر.
كذلك وُجِد أنّه تكون إطالة فترة الإقامة في المستشفى و/أو زيادة وقت إعادة التأهيل أكثرَ شيوعًا بين المرضى الذين يعانون أعراضًا نفسية -وخاصة الاكتئاب- من أولئك المتكيفين طبيعيًّا مع المرض.
وقد أشارت البيانات إلى أنّ الاستجابة للعلاج الكيماوي كانت أخفض لدى النساء المصابات بالاكتئاب؛ مما يشير إلى وجود علاقة محتملة بين الاضطرابات النفسية وارتفاع خطر معاودة ظهور المرض وانخفاض معدل البقاء على قيد الحياة.
وفي الختام؛ نعلمك عزيزي القارئ أننا سنتطرق في الجزء الثاني من هذه المقال إلى الاضطرابات النفسية التي تلحق بالناجين من السرطان والتوصيات والمقترحات التي يجب اتبعاها لتقليل الآثار الناجمة عن هذه الاضطرابات.
الهامش:
*سرطان الثدي الثلاثي السلبي: يصف خلايا الثدي السرطانية التي لا تحتوي على مستقبلات هرمون الإستروجين أو مستقبلات هرمون البروجسترون أو كميات كبيرة من بروتين HER2 / neu.
المصادر:
1- هنا
2- هنا
3- هنا
4- هنا
5- هنا
6- هنا