مراجعة رواية "لوليتا": مثالب الشهوة
كتاب >>>> روايات ومقالات
وكَوْن الرجل محكومًا برغبة تحتلُّها الشهوانية ليس بالأمر السهل أبدًا، بل يمكن القول إنَّ الأمر يُعدُّ من أصعب الأمور التي قد يصادفها المرء؛ ولهذا، فإنَّ الرواية التي نراجعها الآن لم تحشد شهرتها من باب المصادفة، بل من حقيقة كونها قطعةً أدبية فريدة؛ وذلك لأنها استثنائية من ناحية العرض، ولا سيما حين سلط الضوء على رغبةٍ نكِنُّ لها جميعًا الكره كلَّه في قلوبنا.
ففي ربوع صفحات القصة يأخذنا الكاتب في رحلة نصاحب فيها شخصيةً رئيسة أسقط عليها ذاته بنسيج يختلط بشيء من الخيال، وهي تُلقَّب بـ "ه.ه"، ويبدأ المؤلف باستعراض التفاصيل المهمة المتعلقة بطريقة تفكير شخصية الرواية، وتبدو الكلمات لوهلةٍ مبعثرةً وعشوائية ومُفتقرة لأيِّ أسلوب مُحكَم؛ ولكنك تبدأ في أثناء تعمُّقك فيما يجول مع ذلك العقل بإتقان طريقة صفِّ الكلمات تلقائيًّا، لترى جمال لوحات التعبير المكنونة في النص؛ ولكن، سرعان ما تدرك حينها أنَّك أصبحت تحوم حول رغبة خاطئة تُعذِّب شخصية الرواية بنزاعات نفسية مُتناقضة، واستشعار السعي الدائم إلى تقييدها، والندم الناتج عن الفشل المترتِّب على ذلك، فهناك رغبة تجاه فئة معينة من الجنس الأنثوي أطلق عليهنَّ اسم "الجنيَّات"، وهنَّ الفتيات اللواتي لم يبلغنَ سنَّ الرشد بعد؛ المتمتِّعات بجسد لم ينضج بعد.
ومع ذلك، تأخذنا القصة من منظور الإثبات، حينما يستعرض الكاتب أو "ه.ه" مساعيه الشاقة في الوصول إلى جنيَّة وقع معها في حب آثم بناءً على الميثاق الاجتماعي العام، وتطول الأحداث من هذا الباب، لتبدأ بأخذنا إلى احتمالات تفتقر إلى المنطق وتخالف المتوقَّع، بل إنَّ بعضًا منها كان قد سار في نسق مصبوغ بالفحوى المأساوية.
إلى أن يتحقق حلم السيد "ه.ه" سائرًا في طريق تحكُّمه بالملذات، والذي استولى على عقل فتاة صغيرة من أجل الوصول إلى جسدها، وعلى الرغم من أنَّ الأمر برمَّته مُهينٌ مع اعتراف خطِّي من فاعله المذنب؛ الذي استطاع إيصال ما يقبع في داخله من نزاع نفسي ورغبة هائجة مكبوتة بطريقة تجعلنا نفكر في الأمر للحظةٍ من الزاوية الأخرى، فنجد أنفسنا مُندفعين نحو التعمُّق فيما يشعر تعمُّقًا أكبر، ومن البديهي القول بأن لا شيء يدوم، وهذا هو القانون الذي تدركه كل نفس في هذه الحياة؛ وبهذا، تبدأ القصة بدخول تعقيدات إضافية، وبدخول شخصية جديدة عدوَّة تحت لقب "ك.ك"، والتي تنجح في نسف ذلك الحلم لينقلب الأمر رأسًا على عقب من أن يصبح المجرم ضحيةً، وهو الانطباع العام الغريب الذي قد يجسِّده هذا العمل الأدبي.
وبعد المحاولات اليائسة لإنقاذ حلم أصبح من الماضي واندثرت معه رغبته الشهوانية، بقيَ غطاءٌ من الألم والكآبة المنسوج بخيوط ذلك الحب الخاطئ والعودة إلى نقطة البداية مع انكسار عميق ووحدة سرمدية.
ومع وصولنا إلى المفترق الأخير في الرواية، تنطلق شخصية الرواية لتنفيذ الواجب الأخير الذي أوكلته له رغبة خاطئة هي الأخرى، وهنا تأتي الكلمات الأخيرة التي تتَّسم بالطابع الأقوى لتختزل الأحاسيس كلها بعبارات قصيرة تصف فحوى حب غريب من نوعه ومنسوج من خصال الرذيلة عن شخص قضى حياته وهو يحارب نفسه والمجتمع وعدوه "ك.ك" متمسِّكًا بحبه لشهوته حتى النهاية، ومُعطيًا إيَّاه كل ما لديه.
وهكذا، خُلِّدت المحبوبة في رواية مسَّتها سنين عديدة ما بين فجوة زمنِ كتابتها والعهد القانوني المؤقَّت بنشرها، لتستحضر روحَ "لوليتا" وتضعها ضمن تلك الصفحات لنشهد عملًا أحدث جدلًا واسعًا.
"هكذا تُخلَّد الملائكة، وذلك هو سرُّ الألوان التي لا تتبدل، وتلك هي القصائد الرسولية، وذلك هو ملجأ الفن، وإنَّ هذا لهو الخلود الوحيد الذي أستطيع أن أشاركك فيه، أوه، يا حبيبتي لوليتا."
معلومات الكتاب:
عنوان الكتاب: لوليتا
اسم المؤلف: فلاديمير نابوكوف
اسم المترجم: سهيل إدريس
عدد الصفحات: 406
نشر عبر: دار الآداب للنشر والتوزيع، 1988.