سيوران ومعضلة الولادة؛ التورُّط بالوجود
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> الفلسفة الغربية
تأسّست الفلسفة على أسئلة تطال الموجودات والماورئيّات وتفرّعات كل منهما، فقد أشرقت هذه الأسئلة مع فلاسفة الحضارة اليونانية وشقّت طريقها تطورًا وجدلًا مع المدارس الفلسفية عبر العصور لإنتاج مضمونٍ فلسفيٍّ يفكّك التساؤلات البارزة في كل عصر.
وفي خضمِّ هذا الجدل الفلسفي شرعت الفلسفة الوجودية (فلسفة تتكلم عن الفرد بكيانه الملموس (5)) وروّادها من الفلاسفة الوجوديين بتقديم أفكارهم عن معنى الوجود وفهم الحالات الإنسانية مثل الفلسفة كطريقة حياة والقلق والحرية والمسؤولية والاعتبارات الأخلاقية، وأثّرت على الأدب والفن وعلم النفس، فهؤلاء الفلاسفة يعدُّون طبيعة الحالة الإنسانية مشكلة فلسفية تقتضي المعالجة من خلال علم الوجود ودراسة قضايا الفرد (1,5).
ولكن الفيلسوف الروماني إميل سيوران (Emil Cioran 1995-1911) انفصل عن هذا الاتجاه، وعدَّ العقلَ عاجزًا تمامًا عن إضفاء معنى ما على الحياة،* ويرى سيوران أن معضلة البشر الحقيقية في كونهم يولدون؛ وذلك أنّ المعالجة هنا تتمثّل بفكرة (ألّا نولد) وهي ليست في متناول أحد، ومن هذه النقطة انطلق سيوران نحو فلسفته التشاؤمية وتحدثت جلُّ أعماله الأدبية والفلسفية عن لا جدوى الولادة وبؤس الحياة. ويعدّ سيوران قدرةَ البشر على الاستمرار في زيف الحياة وبؤسها بطولةً عظمى، ويعبّر عنه أنه احتجاج ضدّ الحقيقة (2).
جسّد سيوران من خلال طرحه أحد أشدّ أشكال الفلسفة التشاؤمية وتمثيل الحياة بأنها تراجيدية بحتة، إضافة إلى تمثيله أحدَ أوجهِ الفلسفة العدمية، وهي الاعتقاد بأنّ كل القِيَم لا أساس لها، وهي غالبًا ما ترتبط مع التشاؤم الشديد والشك المطلق الذي يدين الوجود وحقيقة القيم، والعدمي في هذا السياق لا يؤمن بشيء وليس له أي ولاء، وبالنظر إلى هذا الظرف -الوجود دون معنى- نجد الوجود نفسه بكل ما يحمله من الشعور والقيم والمعاناة لا معنى له في نهاية المطاف (6).
يقول سيوران في كتابه (مثالب الولادة) الذي يظهر أساسيًّا مدى التمرّد على مفهوم الولادة والحياة: "منذُ وجدت، تبدو لي هذه الـ "منذُ" مشحونة بدلالة مرعبة إلى حد يجعلها لا تُطاق". ويقول بشأن الإنجاب: "اقترفتُ كل الجرائم، باستثناء أن أكون أبًا" (3).
وشكّلت فكرة الولادة هاجسًا في طرح سيوران الأدبي الفلسفي في معظم أعماله وشذراته، وهذا يكوّن اختلافًا جوهريًّا مع طرح فلاسفة آخرين عاصروه، مثل الفيلسوف الوجودي فريدريك نيتشه الّذي جسّد أحد أوجه الوجودية بطرحٍ فلسفيٍّ أدبيٍّ أيضًا من خلال مفهوم الولادة التي ترفع الإنسان إلى علّة تفوق علّة وجودها في كتابه (هكذا تكلّم زاردَشت) في قسم (الطفل والزواج)، إذ يقول نيتشه على لسانِ زاردَشت:
"أريد أن تكون حريتك ونصرك هي التي تتوق إلى ولد، معالمَ حيّةً ينبغي أن تشيّد لانتصارك ولتحرّرك، لا بد أن تشيّد ما يفوق منزلتك، لكن لابد أن تكون أنت ذاتك تامّ البناء، مستقيم البنيان جسدًا وروحًا، ليس نمو تكاثر فقط هو المطلوب منك، بل ارتقاء، وستساعدك حديقة الزوجية على ذلك (4)."
في نقطة ما في فلسفة سيوران يُطرح السؤال الآتي: هل هناك حل مع هذا البؤس المستمر والتورّط في الوجود؟
لم يقترح سيوران شيئًا ملموسًا لخلاص البشرية، فكل الطرائق -حسب رأيه- تؤدي إلى الهلاك، وإن الموت أيضًا؛ ومن ثمَّ العدم، لم يشكّل حلًّا في نظر سيوران، على الرغم من اندفاعه الفلسفي نحو التشاؤم وتسخيف الوجود ولعن الوعي ولكنه لم يقدم على الانتحار، بل تذهب تأمُّلاته وأفكاره نحو حكمة واحدة هي العيش دون أدنى هدف، ومع أن هذا يبدو بوذيًا للوهلة الأولى (تقوم الفلسفة البوذية على التأمّل للتخلّص من الرغبات بغية الوصول إلى السعادة) إلّا أنه لا يدَّعي أنه كان يومًا من الأيام بوذيًا مؤمنًا، مع أنه تأثّر بالبوذية وتطلّع إليها في شذراته، يقول سيوران: "أنا بوذي فيما يخص استنطاق الألم، الشيخوخة والموت فقط. ولكن حينما يقول بوذا: اقتلوا الرغبات وانتصروا على الذات وأهوائها! لا استطيع."
وربط سيوران تقنية تحمُّله الحياةَ بالكتابة وبمتعة السخرية من الوجود فهي ليست ترفًا لتلبية متعة فكرية محضة، وكان يرى بكل كتابٍ منجزٍ أنه انتحار مؤجّل، يقول: "لو لم أسوِّد ورقًا لكنت قد قتلت نفسي منذ زمان"، وبالنسبة للاستمرار والرجوع عن محاولة الانتحار، يكمنُ ذلك في قدرته على الانتحار متى أراد ولكنه يفضّل السخرية من الحياة، فإن في التخلّص من الحياة -حسب وصفه- حرمان من سعادة السخرية منها، "السخرية هي الانتصار الحقيقي والوحيد على الحياة والموت (2)".
*لقراءة المزيد عن الفلسفة العدمية: هنا
المصادر:
1- هنا
2- زناز، حميد. (2009). المعنى والغضب؛ مدخل إلى فلسفة سيوران. (ط.1). الجزائر: منشورات الاختلاف. لبنان: الدار العربية للعلوم والنشر. صـ 9- 15-16-36-69
3- سيوران، اميل. (2015). مثالب الولادة. ترجمة: فتحي، آدم. (ط.1). بغداد-بيروت: منشورات الجمل. صـ 7-11
4- نيتشه، فريدرك. (2007). هكذا تكلم زاردشت. ترجمة عن الألمانية: مصباح، علي. (ط.1). كولونيا (ألمانيا)-العراق: منشورات الجمل. صـ 137.
5- آر فلين، توماس. (2014) الوجودية؛ مقدمة قصيرة جدا. ترجمة: عبد السلام، مروة. مراجعة: فتحي خضر، محمد. (ط.1). مصر: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة. صـ 10-21-22
6- هنا