عالمنا الأزرق الغامض! الجزء الثاني
الهندسة والآليات >>>> الروبوتات
يُعدُّ كائن قنديل البحر من الكائنات القديمة التي وُجدت منذ أكثر من 500 مليون سنة. له أنواع كثيرةٌ؛ يوجد منها في البحار ومنها في أعماق البحار التي قد تصل إلى 3700 متر. وتعتمد قناديل البحر في حركتها على الانكماش والتمدد السريع لجسمها الدائري المسمَّى بالجرس Bell ومساعدة أرجلها أو ما يشبه أطرافها في التوجيه والدوران وحتى تنفيذ مناورات كتلك التي تنفذها طائرة حربية محلقةً في السماء (2,3).
Image: Animation by Eleanor Lutz
نشر باحثان عام 2012 دراسة توصلوا عن طريقها إلى نتائج عمليةٍ فيما يتعلق بمحاولة عمل "قنديل بحر آلي"، وتضمنت الدراسة تفاصيل عملهم لمحاكاة حركة الجرس لقنديل البحر من نوع Aequorea victoria التي أجريت ضمن عدة مراحل؛ إذ بُحِث أولًا عن أنواع مختلفة من قنديل البحر مع التركيز على سلوكهم في السباحة، في المرحلة الثانية أجريت مقارنة بين حركة جرس Aequorea victoria ونوعٍ آخر، ثالثًا وضع تصميم وآلية عمل قنديل البحر الآلي، وفي المرحلة الأخيرة حصلوا على نتائج الروبوت المصمَّم المتمثلة بطريقة الحركة والسباحة (1).
تشتهر كائنات Aequorea victoria بتواتر منخفِض في حركتها للسباحة وتغيرات بسيطة في الجرس (جسمها) وكفاءتها العالية مقارنة باستهلاكها للطاقة. وقد هدفت المحاولات الأولية لبناء قناديل البحر الآلية إلى إيجاد أشكال جديدة من تقنيات الدفع والتشغيل؛ إذ تعتمد هذه التقنيات على العضلات الاصطناعية التي تساعد بدورها على محاكاة بنية الحيوان الطبيعي وسلوكه، وهي هنا مشغلات IPMC.
مركبات فلز البوليمر الأيونية (IPMC ionic polymer-metal composite actuators)
وهي مشغلات مرنةٌ تتكون من غشاء شبه منفذ (نصف نفوذ) مثل غشاء نافيون Nafion، وأقطاب كهربائية موصلة التي تتكوَّن عادة من خليط من أيونات البوليمر وعناصر موصلة مثل ثاني أكسيد الروثنيوم RuO2، والأنابيب النانوية الكربونية أحادية الجدار (SWNT)، والجزيئات النانوية للذهب، بالإضافة إلى معدن رقيق كطبقة خارجية للسطح ومن ثم تزداد نسبة الموصلية! (1)
عند تطبيق جهد كهربائي منخفض (2-5 فولت) على مشغلات IPMC ينحني الغشاء النصف نفوذ نحو الكاثود ممَّا ينتج عنه تشوهًا ميكانيكيًّا. ولإظهار تأثير هذا التشوه في حركة القنديل الآلي واستهلاكه للطاقة؛ بُنِي أنموذج روبوت قنديل البحر الذي يُحاكي Aequorea victoria والذي بلغ وزنه (20 غرام)؛ إذ صنع الجرس المرن من غشاء بولي أوليفين قابل للتقلص بالحرارة وربطت المشغلات بالجرس بأكمام مستطيلة صغيرة على الجانب السفلي من الجرس (1).
وعند اختبار قدرة الروبوت على السباحة وإنتاجه لقوة الدفع بنفسه؛ نجح في الحركة مع أربعة مشغلات بمعدل سرعة 0.77 ملم / ثانية واستهلاك طاقة 0.7 واط. وعند استخدام ثمانية مشغلات؛ ارتفع متوسط السرعة إلى 1.5 مم / ثانية مع استهلاك طاقة قدره 1.14 واط. وعلى الرغم من أن استهلاك الروبوت للطاقة كان أقل بنسبة 70٪ مقارنة بالمحاولات السابقة في تصميم قنديل بحر آلي، لكنَّ هذه الروبوتات المائية تبدي استهلاكًا للطاقة أعلى من نظيراتها (الحية) ومن ثَمَّ -للأسف- فهي تتطلب إمدادات للطاقة باستمرار من مصدر خارجي (1).
لم ينته الأمر عند هذا الحد!
باستخدام قناديل البحر الحية حاملاتٍ طبيعية، يُمكننا الاستفادة من عملية الأيض الخاصة بالحيوانات لتقليل متطلبات الطاقة تمامًا كجنين يحصل على طاقته من جسم أمه، بل وامتد الأمر هنا إلى الاعتماد على خصائص الأنسجة الحية وقدرتها على التجدد ذاتيًّا وتحمُّل الضرر والتغلب على الظروف المشابهة. إذن لماذا نصنع محركًا بينما يمكننا الاستفادة من عضلات الكائن الحي ذاته من أجل الحركة؟
دمج الإلكترونيات الدقيقة في قناديل البحر الحية
نقدِّم هنا روبوتًا هجينًا بيولوجيًّا يُستخدم فيه الإلكترونيات الدقيقة للحث على السباحة!
اعتمد الباحثون هذه المرة على أنموذج معياري مختلف "قنديل البحر Aurelia aurita"؛ وهو نوع آخر يشتمل على جرس مرن وطبقة أحادية من العضلات الإكليلية والشعاعية التي تبطن السطح تحت الجرسي؛ إذ تنقبض عضلات القنديل في أثناء السباحة لتقليل حجم التجويف تحت الجرس وإخراج الماء بسرعة كبيرة لتوفير قوة دافعة. ولبدء هذه الانقباضات العضلية، ينشط الحيوان أيًّا من أجهزة تنظيم ضربات القلب الثمانية الموجودة داخل الأعضاء الحسية على طول حافة الجرس (2).
تعمل هذه المجموعات العصبية على تنشيط الشبكة العصبية الحركية بالكامل، وقد أظهرت دراسات الفيسيولوجيا الكهربية أن تطبيق تيار كهربائي دوريًّا على قنديل البحر ضمن نطاق معين يمكن أن يحفزَ تقلصات العضلات وحركتها الإيقاعية؛ وبذلك حدَّد الباحثون -منهجيًّا- الاستجابة الزمانية والمكانية لهذا الكائن المذهل للإشارات الكهربائية ذات السعات المختلفة (A)، والمدة الزمنية للنبضات (T)، والترددات (f)، والمواقع المثلى لوضع هذه الأقطاب لتحديد التوليفات التي تحفَّز بقوة وانتظام انقباضات العضلات وانبساطها. استخدموا هذا التوصيف في تصميم نظام إلكتروني دقيق للتحكم الخارجي في سباحة قنديل البحر (2).
الآلية المُتبعة
وُصِلَ سلكين كهربائيين من عنصر الفضة المطلي بالفلوروألكسي (PFA)، وقضبان البلاتين التي يبلغ قطرها 254.0 ميكرومتر في سلسلة من الثنائيات الباعثة للضوء TinyLily 10402 للتأكيد المرئي عند التقاط الإشارة الكهربائية. ولربط جهاز التحكم بالسباحة بقنديل البحر؛ أُدخِل دبوس خشبي طوله 2.5 سم متصل بوسط من غلاف مادة البولي بروبيلين على الجانب الفرعي من مركز الجرس. وللمحافظة على اتزان النظام مع الوزن الطبيعي لجسم الحيوان؛ عُوِّض وزن النظام باستخدام حلقات معدنية غير القابلة للصدأ والفلين. وللتحقق من قدرة وحدة التحكم في السباحة على دفع انقباضات جرس قنديل البحر خارجيًّا، طوَّر الباحثون منهجًا لتتبع حركة الجرس (2).
إذ أُجريت ثلاث مجموعات من التجارب: ضوابط لمراقبة الانقباضات الذاتية للحيوانات مباشرة في حالة عدم وجود أي اضطرابات، وضوابط لمراقبة ما إذا كان تضمين الأقطاب الكهربائية الخاملة سيؤثر في سلوك الحيوان الطبيعي، وأخيرًا ضوابط لمراقبة الانقباضات الخارجية لتأكيد التحفيز الناتج عن الإشارات الكهربائية.
وصل الباحثون بالفعل لسرعات تصل إلى ثلاثة أضعاف تقريبًا سرعة قنديل البحر الطبيعي!
وبذلك نجحت قناديل البحر الروبوتية المهجنة بيولوجيًّا في الوصول إلى سرعات مماثلة لسرعات الروبوتات الميكانيكية الأخرى، وقد وجد أن التطبيق هنا كان من 10 إلى 1000 مرة أكثر كفاءة في استخدام الطاقة من الروبوتات المائية الموجودة، مع قدرة قنديل البحر الفائقة في الوصول إلى الأعماق السحيقة ومراقبة البيئة المحيطة بواسطة النظام الإلكتروني الموصول بها. وللتأكد من سلامة الكائن الحي مع وجود هذه التقنية؛ تتيح أداة التحكم المبتكرة باستخدام تردد منتظم قياس معدلات استهلاك الأكسجين في الأنسجة الحيوانية وفي المياه المحيطة ورصد المنحنى التمثيلي لمستويات الأكسجين، وإظهار معدلات استهلاك الأوكسجين المذاب في الماء المحيط وفي الأنسجة الحيوانية، ومقارنة معدلات الاستهلاك في أثناء التحفيز مع التمثيل الغذائي العادي؛ أي في غياب التحفيز الخارجي. وتوصل الباحثون إلى أنه لا تؤدي السباحة المحسّّنة بقناديل البحر إلى تكبد تكاليف إضافية على استقلاب الحيوانات أو إهلاك صحتها (2).
إن التحكم الاصطناعي في حركة الحيوانات المائية له القدرة على مواجهة التحديات الطويلة الأمد في التشغيل والتحكم، والتغلب على معضلة الطاقة في الروبوتات الصغيرة التي لا نملك خيار الوجود بجانبها لتزويدها بالطاقة ببساطة كلما استدعى الموقف ذلك. وهذه الإمكانية يمكن أن ترفعَ من معدلات أداء (الروبوتات الحيوية المختلطة Biohybrid Robots) كثيرًا بالنسبة إلى الأداء الطبيعي للأحياء المائية "العادية" ومن ثم قدرة أعلى لمراقبة النشاط في أعماق المحيطات واستكشاف كثيرٍ ممَّا لم نصل إليه مسبقًا!
المصادر:
2- Xu N, Dabiri J. Low-power microelectronics embedded in live jellyfish enhance propulsion. Science Advances [Internet]. 2020 [cited 2 April 2020];6(5):eaaz3194. Available from: هنا
3- Jellyfish and Comb Jellies [Internet]. Smithsonian Ocean. 2020 [cited 2 April 2020]. Available from: هنا